عالم ما بعد النمو... وأوهام الرخاء الضائع!
افترضت المؤسسات المالية والأسواق أن الإنتاجية ستستمر في النمو بنفس وتيرة أواخر تسعينيات القرن الماضي، الأمر الذي أدى إلى تعزيز فقاعة الأصول التي نقلت وهماً بالرخاء.
في بحث مثير حديث، يستنتج روبرت غوردون من جامعة نورث ويسترن أن معدل التقدم التكنولوجي تباطأ بشكل حاد، وبالتالي فإن ارتفاع مستويات المعيشة (على الأقل في دول العالم الغنية) من المحتم أن يتدهور. ويقول غوردون إن نصيب الفرد في الدخل في الولايات المتحدة تضاعف كل خمسة وعشرين إلى ثلاثين عاماً في القرن العشرين، ولكن المضاعفة المقبلة من المرجح ألا تحدث إلا على مدى مئة عام، وهي الوتيرة التي شوهدت لآخر مرة في القرن التاسع عشر.إن اعتبارات النمو الطويل الأجل، على الرغم من النظر إليها باعتبارها بالغة الأهمية، تبدو بعيدة عن حتمية الإصلاح المالي واستعادة الثقة الآن؛ لذا فإن التعليق على بحث غوردون كان منفصلاً إلى حد كبير عن المناقشات السياسية التي تتناول "الركود العظيم" المستمر الآن.
ولكن التقييم الواقع لآفاق النمو هو على وجه التحديد المطلوب الآن لتصميم السياسات المناسبة والقابلة للتطبيق، والواقع أن غوردون لا يريد أن يقول إن النمو سيتباطأ في المستقبل، بل إنه يقصد بدلاً من ذلك أن نمو الإنتاجية الذي يستند إليه النمو عموماً انتقل بشكل حاد إلى مسار أدنى كثيراً في عام 2000 تقريبا. وقد عشنا الجزء الأفضل من العقد التالي يصاحبنا شعور مضلل بامتداد الرخاء والازدهار فعملنا على نشوء الفقاعة المالية وتضخمها. والأسوأ من ذلك هو أننا نتعامل مع الحاضر وكأن النمو القائم على الفقاعات الذي استمر منذ عام 2000 إلى عام 2007 سيعود.ولنتأمل هنا توقعات صندوق النقد الدولي المعتادة لآفاق النمو العالمي. في أبريل 2010، بعد نحو ثمانية عشر شهراً من انهيار "ليمان براذرز"، بدا الأمر وكأن الأزمة انتهت. وكانت التوقعات هي أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي سينمو بنحو 4.5% سنوياً إلى عام 2015، وهي نسبة أعلى قليلاً من الوتيرة أثناء العقد السابق للأزمة، في حين كان من المتوقع أن يكون معدل التضخم السنوي المتوسط أقل، عند مستوى 2.9%. وبدا المستقبل مشرقاً.ولكن ما حدث بدلاً من ذلك، وبعد عمليات تنقيح متعاقبة، هو أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2012 من المتوقع الآن أن ينمو بنسبة 3.3% فقط، في حين من المتوقع أن يصل معدل التضخم إلى 4%، وهو ما يشير إلى زخم اقتصادي عالمي أضعف كثيراً من المتوقع. والواقع أن النمو الأدنى من المتوقع والتضخم الأعلى من المتوقع أثّرا في أغلب اقتصادات العالم. ففي عامي 2011 و2012، برزت المملكة المتحدة بين الاقتصادات المتقدمة في هذا الصدد؛ ولكن نفس النمط قائم حتى بالنسبة إلى ألمانيا. وبالمثل، خفت بريق مجموعة البرازيل وروسيا والهند والصين.ورغم أن توقعات صندوق النقد الدولي وغيره كانت متفائلة باستمرار، فإن كل نكسة كانت تُعامَل وكأنها انحراف مؤقت مرتبط بسبب فريد أدى إليه: عملية الإنقاذ اليونانية، والتسونامي المأساوي في اليابان، وارتفاع مستوى التقلبات في أعقاب خفض "ستاندرد آند بورز" لتصنيف ديون الولايات المتحدة، وما إلى ذلك. لقد تراجع موعد عودة النمو العالمي إلى نسبة 4.5% - حسب أحدث التوقعات- إلى عام 2015. إن الإيمان بالنمو المتجدد ليس أكثر من استراتيجية غير حكيمة في التعامل مع السياسات، ففي جوهرها، تُعَد الأزمة الاقتصادية العالمية أزمة نمو. فقد افترضت المؤسسات المالية والأسواق أن الإنتاجية ستستمر في النمو بنفس وتيرة أواخر تسعينيات القرن الماضي، الأمر الذي أدى إلى تعزيز فقاعة الأصول التي نقلت وهماً بالرخاء؛ أما أولئك من غير المشاركين بشكل مباشر في الفقاعة المالية فقد استقطبوا من خلال التجارة الدولية المزدهرة. كما تلقى النمو الأوروبي، مع اعتماده المفرط على التجارة، دفعة خاصة، كما حدث للأسواق الناشئة.وبمجرد بداية أزمة "الركود العظيم"، تحولت العملية إلى الاتجاه المعاكس، ولكن صناع السياسات استمروا في قياس توقعات التعافي على أداء النمو قبل الأزمة. وعندما أثبت الواقع العكس، لم يُهجَر الرجوع إلى الماضي، ولكنه تأجل فحسب. وكان الاستمرار في افتراض العودة إلى مستويات نمو ما قبل الأزمة ضرورياً لتبرير تأجيل اتخاذ القرارات الصعبة.على سبيل المثال، كان انتعاش النمو يدعم التوقعات بأن الدول الواقعة على أطراف أوروبا لن تلجأ إلى إعادة هيكلة ديونها السيادية أو التخلص منها بالتضخم. ويشكل الافتراض بأن الاقتصاد الألماني سيتسارع ليخرج من تباطئه الحالي ضرورة أساسية للثقة بشبكة الأمان المالي في أوروبا، وللاتحاد المصرفي الذي يتقاسم المخاطر بقدر من المصداقية عبر منطقة اليورو. كما يشكل استئناف النمو الاقتصادي العالمي القوي الأساس لتأخير تنفيذ قواعد بازل 3 للعمل المصرفي. وإذا تباطأ النمو في مجموعة البرازيل وروسيا والهند والصين، فقد تصبح أكثر عُرضة لأزمات الديون والعملة.ما العمل إذن؟ لأننا لا نستطيع أن نعتمد على إكسير النمو في توقعات صناع السياسات لحل المشاكل، فإن التعامل مع التجاوزات المالية يصبح أكثر إلحاحاً، وهذا يعني المزيد من إعادة هيكلة الديون والمزيد من عمليات إفلاس البنوك الآن، وليس تمييع المقترحات بكبح جماح الأسواق الطليقة. وبالتطلع إلى المستقبل، كما أكد روبرت شيلر من جامعة ييل مراراً وتكرارا، فإن السياسات العامة لابد أن تساعد في تشكيل أسواق المستقبل القادرة على التحوط للمخاطر بشكل أفضل وبحوافز أكثر جدارة بالثقة.ليس هناك مسار سحري يقودنا إلى زيادة معدلات نمو الإنتاجية، وحتى إذا كان تشاؤم غوردون مفرطاً، فإن توقيت التقدم الخارق التالي في التكنولوجيا يستحيل التنبؤ به، وقد تساعد الإصلاحات "البنيوية" المزعومة، ولكن المكاسب المحتملة ضئيلة وغير مؤكدة. وربما حان الوقت الآن ببساطة لكي نتعلم كيف نعيش بإمكانات أقل.* أشوكا مودي | Ashoka Mody ، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي الأسبق إلى ألمانيا وأيرلندا، وهو أستاذ السياسة الاقتصادية الدولية الزائر لدى كلية وودرو ويلسون للشؤون العامة والدولية في جامعة برينستون.«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»