شعبية الإسلام السياسي ستدوم في مصر
باتت مشاكل مصر اليوم من مسؤولية الجيش والليبراليين المصريين، وتشير كل التوقعات إلى أنهم سيخفقون إخفاقاً كبيراً، ما يتيح لـ «الإخوان المسلمين» فرصة السيطرة مجدداً على الشارع.
كيف يؤثر انقلاب الجيش المصري في حكومة "الإخوان المسلمين" المنتخبة في الإسلام السياسي، الذي يُعتبر الحركة الثقافية والسياسية الأكثر أهمية في الشرق الأوسط منذ ستينيات القرن الماضي؟ هل يعتبر "الإخوان المسلمون" سقوطهم رفضاً لمعتقداتهم الدينية؟ وهل عليهم ذلك؟من المستحيل تاريخياً تخيل النضال الإسلامي من دون جماعة "الإخوان المسلمين"، إذ تأسست هذه الجماعة عام 1928، وناضلت ضد الاستعمار البريطاني وتبني مصر الطابع الغربي بسرعة. نتيجة لذلك، تحولت جماعة "الإخوان المسلمين" إلى رمز الأصولية السنية. كانت هذه الجماعة سرية إنما تمتعت بشعبية واسعة، احتقرها رجال الدين الذين تقاضوا أجرهم من الدولة، واعتبرت حركة جامعة من الناحية الفكرية (الاشتراكية، والفاشية ومعاداة السامية الأوروبية كلها اجتمعت في إيمان "حقيقي"). وازدادت شعبيتها في مصر مع إخفاق تجربة الجيش مع القومية العربية ورأسمالية المحاباة.
لطالما تمحورت نقاط قوة حركة جماعة "الإخوان المسلمين" على طول نهر النيل وما بعده، حول إيمانها العام وفضائلها الخاصة وتاريخها المميز بالنسبة إلى المسلمين الذين يعتبرون أن عظمة الشعب تنبع من التزامه بالقيم والأخلاق. فاجأ سقوط حسني مبارك، الضابط الذي أصبح رئيساً، هذه الجماعة قبل نحو سنتين، فقرر "الإخوان المسلمون" قبل ثلاثين سنة تقريباً التعايش مع دولة أمنية: فتخلوا عن السياسة وركّزوا على الشؤون الدينية والأعمال الاجتماعية، فأصبحوا "حركة أصولية جديدة" تصوّرت سقوط الدولة البوليسية المصرية تدريجياً، ومع المناظرات الديمقراطية الحامية التي دارت بين المثقفين العرب عقب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وحرب العراق، تبنت الحركات الإسلامية الأصولية خطاباً أكثر ديمقراطيةً وخاضت، وإن بفتور، صراعاً ضد التناقضات بين السيادة الشعبية والشريعة.قام تبني "الإخوان المسلمين" سياسة ديمقراطية على الاعتقاد السني أن أغلبية المسلمين لا يمكن أن تجمع على أمر سيئ، لكن التظاهرات الحاشدة الأخيرة في مصر تُظهر بالتأكيد أن الكثير من المسلمين، الذين صوتوا مراراً لـ"الإخوان المسلمين" (في الانتخابات البرلمانية عامَي 2011 و2012 وفي الانتخابات الرئاسية الصيف الماضي وفي استفتاء الدستور الجديد في شهر ديسمبر الماضي)، نزلوا إلى الشارع للتظاهر ضدهم. ولا شك أن هذا شكّل صدمة بالنسبة إلى بعض "الإخوان" ودفع بالإسلاميين في دول أخرى إلى إعادة النظر في التقاطع بين الدين والسياسة.صحيح أن الطغيان الديني يدفع بالمجتمع نحو العلمانية (تأملوا في المسيحية والغرب)، إلا أن "حكم" الإخوان المسلمين كان قصيراً، وضعيفاً (ظلت السلطة الفعلية بيد الجيش وقوى الأمن في مصر)، وباهتاً أخلاقياً. فلم يطرأ على وضع المرأة أي تغيير بين انتخاب الرئيس محمد مرسي وسقوطه، كذلك لم تتبدّل سياحة "البيكيني" وبيع الكحول، مسألتان مثيرتان للجدل بالنسبة إلى الإسلاميين الأصوليين. وهكذا راحت جماعة "الإخوان المسلمين" تتخبط وسط مشاكل الحكم الأساسية من دون التمتع بسلطة واسعة، ما حال دون تطبيقها أو حتى اختبارها مفهومها عن "الحياة الجيدة". بالنسبة إلى المعارضة العلمانية، هذه مشكلة كبيرة أو ربما مميتة، ففي جمهورية إيران الإسلامية، مثلاً، استُنفد التعصب الديني بين المواطنين العاديين نتيجة حرب العراق وإيران في ثمانينيات القرن الماضي، فضلاً عن ثلاثة عقود من حكم الملالي المستبد الفاسد. وهكذا تحوّل مَن كانوا إسلاميين إلى نقاد عنيدين للنظام الثيوقراطي. على نحو مماثل، توسّعت شعبية العلمانية في إيران في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلا أنها ماتت تدريجياً خلال حكم الشاه، فيما راح الحكم المستبد الغربي والأحوال الاقتصادية في دولة مركزية عصرية يطيحان بمجتمع تقليدي، وأشعلا صحوة دينية سياسية. كان الانتصار الانتخابي لحزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا متوقعاً أيضاً، خصوصاً بعد أن حرم الجيش التركي المناطق المتدينة البعيدة عن المدن في تركيا حرية التعبير الديمقراطية. ومن المستبعد أن يتفوق الجيش المصري القاسي والفاسد على الجيش التركي في إدارة عملية تطور أفضل نحو ديمقراطية غير إسلامية، علماً أن الجيش التركي لا يُعتبر فاسداً أو قاسياً بالمقارنة.لم يشهد الشرق الأوسط العربي منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى (عندما عاشت مصر مرحلة وجيزة من الليبرالية العلمانية في أبهى حللها) منافسة حقيقية بين الليبراليين العرب والمسلمين المتشددين الذين يعتبرون السياسة إلى حدّ كبير امتداداً لإيمانهم. ولا شك أن هذه الفئة الثانية ما زالت تشكّل الأغلبية في مصر (فالشريعة الإسلامية هي قانون معظم المصريين، الذين كانوا يعيشون خارج نظام قضائي متحجر غير فاعل يقوم على قوانين أوروبية مستوردة).يبدو أن الكثير من الشبان المصريين العلمانيين (ومعجبيهم الغربيين) يجهلون هذا الواقع، فهم يحلمون بتأسيس ديمقراطية ليبرالية لا يمكن لأنصار الشريعة والتقاليد الإسلامية الفوز بالانتخابات فيها أو كتابة دستورها أو صوغ مجتمعها إلا بما يتوافق مع الخطوط العلمانية العريضة. لطالما حقق تبني الطابع الغربي نجاحاً كبيراً في مصر، حتى إن ثلث الشعب ما عاد يشاطر الأغلبية المتدينة تقاليدها الثقافية الأساسية. نتيجة لذلك، لجأ الليبراليون المصريون وما تبقى من مجموعات المعارضة المتنوعة ثقافياً إلى الشارع والجيش (الحاكم الفعلي لمصر منذ عام 1952) كي يتمكنوا من المنافسة، وتُعتبر هذه علاقة متينة راسخة من الصعب أن تنقطع قريباً.لا شك أن مرسي- وهو سياسي ديماغوجي ممل وغير كفء يفتقر إلى البلاغة- لن يعود إلى سدة الرئاسة، لكن مشاكل مصر العامة المعقدة ما زالت قائمة، وقد يحاول الجيش المصري التلاعب بالانتخابات بطريقة تتيح للإخوان المسلمين المشاركة فيها من دون أن يحققوا النصر. فمن المؤكد أن كبار القادة العسكريين يذكرون تماماً التاريخ التركي الحديث؛ لذلك لن يتيحوا للإسلاميين الراغبين في الانتقام المجال للمنافسة، والفوز، وتقويض سلطة الجيش. باتت مشاكل مصر اليوم من مسؤولية الجيش والليبراليين المصريين. وتشير كل التوقعات إلى أنهم سيخفقون إخفاقاً كبيراً، ما يتيح لـ"الإخوان المسلمين" فرصة السيطرة مجدداً على الشارع. انتهت تجربة مصر مع الديمقراطية على الأرجح، فقد يفوز العلمانيون المصريون في الانتخابات المقبلة، غير أن مصريين كثراً (معظمهم على الأرجح) سيعتبرون عملية التصويت غير شرعية. والإسلام السياسي في مصر ينمو ويزداد قوة في وجه القوى غير الشرعية، وقد يعود الإسلاميون إلى العنف (باتت حجج الحرب المقدسة التي طرحها المنظّر الإسلامي سيد قطب أكثر وضوحاً اليوم). ومن المرجح أن يحشد "الإخوان المسلمون" أنصارهم في الشارع، ويعودوا إلى الأصولية الجديدة، ممررين الوقت حتى يسقط الجيش المصري. وبخلاف ما يتفاخر به ليبراليو الفيسبوك في "ميدان التحرير"، ما زالت اللعبة بعيدة كل البعد عن خواتمها.Reuel Marc Gerecht* باحث بارز في جمعية الدفاع عن الديمقراطيات، خدم في قسم الخدمات السرية في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بين عامَي 1985 و1994، وهو متخصص في شؤون الشرق الأوسط.