يشدد كثيرون اليوم على أن إخفاق الرئيس الأميركي باراك أوباما في اتخاذ قرارات حاسمة للإطاحة بنظام بشار الأسد في سورية يعود إلى الانقسامات الداخلية في إدارته، والحسابات الخاطئة بشأن ميزان القوى على الأرض، وتردد الرئيس بحد ذاته، ولكن ثمة تفسير آخر: تعرب إدارة أوباما عن ضبط نفس مدروس يرجع إلى تجارب مرة سابقة وإلى أولوية استراتيجية أهم تقتضي النأي عن قوس الصراع الإسلامي للتعامل بفاعلية مع الصين.

Ad

تشمل الأسباب الأكثر وضوحاً للامتناع عن التدخل في الحرب الأهلية السورية النتائج المخيبة للآمال التي تجلت عقب سقوط الحكم الدكتاتوري في ثلاث دول عربية، فتعاني تونس اليوم عدم استقرار دائم وأحياناً عنيف، في حين أن ليبيا تواجه التفكك الداخلي والقبلي. أما مصر، التي تحكمها جماعة «الإخوان المسلمين»، فقد تحولت إلى نموذج لسوء الإدارة السياسي.

فيُعتبر الرئيس المصري محمد مرسي مستبداً بقدر الرئيس السابق حسني مبارك، إلا أنه أقل تحرراً في المسائل الاجتماعية وقضايا حقوق المرأة، ولا شك أنه أقل فاعلية بكثير في الإشراف على الاقتصاد، الذي بات اليوم في حالة يُرثى لها. إذن، بعد المطالبة برحيل بن علي، ومبارك، والقذافي، من المبرر ألا يبدو أوباما متحمساً جداً لما يُحتمل أن يأتي بعد الأسد.

لكن الدافع الأقل وضوحاً للامتناع عن التدخل في سورية يعود إلى السبب الكامن وراء هذه الإخفاقات، ولا بد من أنه سبب بالغ الأهمية، نظراً إلى أوجه الاختلاف الشاسعة بين هذه الدول الثلاث. فقد بدت تونس، بثقافتها المدنية شبه المتوسطية وعقودها الطويلة من الحكم الآمن والمستقر وإن كان مستبداً ووحدتها راسخة، أنها تملك الظروف الملائمة للحكم الديمقراطي. لكنها تخضع اليوم لحكم حزب إسلامي فاشل يبدو عاجزاً بكل وضوح عن تنشيط الاقتصاد، فضلاً عن أنه لا يستطيع أو بالأحرى لا يرغب في حماية المؤسسات العلمانية من الاعتداءات السلفية.

 ليبيا، في المقابل، دولة شاسعة، بخلاف تونس، إلا أن عدد سكانها يوازي نصف ما تضمه جارتها الغربية، كذلك يتألف مجتمعها من مجموعات إثنية متعددة تتشعب إلى الكثير من القبائل المتخاصمة، يتخبط بعضها وسط صراعات دموية.

 أما في مصر، فلم يفز المجتمع الليبرالي الراسخ في الانتخابات، بل جماعة «الإخوان المسلمين»، في حين حصدت الحركة السلفية التي تسعى إلى استيراد التطرف من بعض الدول العربية 20% من الأصوات. إذن، ما القاسم المشترك الخفي بين هذه الدول الثلاث؟

قد نميل إلى تعليل المصير المشترك لهذه الدول المختلفة كل الاختلاف بالتحدث عن دور الإسلام في السياسة. قد يشكل الإسلام السياسي عقبة أمام الديمقراطية (ولا يمكن اعتبار تركيا مثالاً على العكس لأننا بذلك نتجاهل أن هذه الدولة أسسها حاكم مستبد لتكون بلداً علمانياً، ويعمل حكامها الإسلاميون الحاليون على تقويض هذا الإنجاز يوماً بعد آخر). ولكن لا داعي للغوص في مشاكل الإسلام السياسي المعاصر، لأن المستوى الاقتصادي لشعوب دول شمال إفريقيا هذه لا يستطيع أن يدعم حكماً ديمقراطياً في مطلق الأحوال.

لا شك أن الربيع العربي ساهم مساهمة كبرى في إخراج هذه الشعوب من خمولها، لكن هذا يعيق الحكم المستبد فحسب، مع أن الظروف الأساسية في هذه الدولة ما زالت تشكل عقبة في وجه الديمقراطية.

إذن، لم يتبق سوى أشكال متنوعة من الفوضى، ومن المؤكد أن الحرب الأهلية السورية مأساة إنسانية دموية، لكن الولايات المتحدة لا تستطيع إنهاءها إلا بتدخل عسكري شامل قد يؤدي في النهاية إلى نشوء دويلات علوية، وعربية سنية، وكردية، وربما درزية تتصارع في ما بينها. ونأمل أن تكون الولايات المتحدة قد تعلمت الابتعاد عن مآزق مماثلة بعد أكثر من عقد من التورط في حروب طائفية في الشرق الأوسط ووسط آسيا.

تُظهر الحقيقة الجلية أن بين يدي أوباما مشكلة أكبر، لا شك أن الوضع الإنساني المأساوي في سورية يستدعي التدخل، ولكن على جامعة الدول العربية والدول الأوروبية الراغبة أن تتولى هذه المهمة، خصوصاً بعد أن تجلى ضعف تركيا بوضوح.

 وينبغي للولايات المتحدة أن تضطلع بمسؤولياتها جديدة: فكي تتمكن من الرد بفاعلية على بروز الصين، عليها أن تبتعد عن السعي العقيم وراء الاستقرار في شمال إفريقيا، والشرق الأوسط، وأفغانستان. تستحوذ الأزمات التي لا تنتهي في هذه المناطق على الكثير من الاهتمام السياسي وتولد الضغوط لتنفيذ عمليات تدخل مكلفة جدا تفاقم أعمال العنف الإرهابية بدل أن تحد منها.

في المقابل، يتمتع جيران الصين بحكومات ديمقراطية وشعوب متقدمة اقتصادياً لا تريد من الولايات المتحدة إلا أن تطمئنها وتؤكد تدخلها الاستراتيجي. ترحب هذه الدول بالأميركيين الذين يقصدونها بأعداد كبيرة ومتنامية لأهدف تجارية، وسياحية، أو حتى دينية. صحيح أن بكين تواصل تعاونها مع الولايات المتحدة بطرق عدة، إلا أنها تهدد أيضاً المياه الإقليمية اليابانية، والفلبينية، والإندونيسية، والماليزية، والفيتنامية، فضلاً عن أجزاء من الأراضي الهندية.

يكمن التحدي في ضرورة الرد على تعديات الصين اليومية تقريباً بطريقة مبطنة لا تستفزها وتعزز في الوقت عينه قوة المعتدلين في بكين (نعم، ثمة معتدلون) وتقنع الصقور، الذين يشملون اليوم الرئيس الصيني الجديد تشي جينبينغ، بالعدول عن خططهم. ولتحقيق هذه الغاية، لا تحتاج الحكومة الأميركية إلى حاملات طائرات ودبلوماسية فاعلة فحسب، بل أيضاً إلى تركيز مستمر لا تشتته الأزمات في بقاع أخرى من العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط المتفجر.

يجب ألا ندين أوباما ومَن يوافقه الرأي من مستشاريه لرفضهم دخول المستنقع السوري، بل يجب أن نثني على تريثهم الحذر وأولوياتهم الاستراتيجية الواضحة والدقيقة.

Edward Luttwak