أميركا بالوكالة؟

نشر في 24-05-2013
آخر تحديث 24-05-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت كان زوال الإمبراطورية الرومانية محصلة لاقتران الإجهاد الاستراتيجي بالإفراط في تفويض قادمين جدد بتولي مسؤوليات أمنية، ومن دون الخوض في مقارنات غير ضرورية، فإن السؤال بالنسبة إلى الولايات المتحدة اليوم هو ما إذا كان بوسعها أن تظل الدولة صاحبة القوة الرائدة على مستوى العالم في حين تفوض آخرين أو أدوات تكنولوجية بالاضطلاع بمهمة حماية نفوذها العالمي.

الآن، تشكل الطائرات بدون طيار والحلفاء- أسلحة غير بشرية وجنود غير أميركيين- جزءاً مركزياً من العقيدة العسكرية الأميركية. إن قيادة العالم في البراعة التكنولوجية، وقيادته في الوقت نفسه من الخلف عندما يتعلق الأمر بالقوات القتالية على الأرض، إن لم يكن في الجو أيضا، يجعل تجاهل هذا التحول الطارئ على العقيدة الأميركية أمراً مستحيلا.

فأولاً كان هناك التحرك الفرنسي البريطاني المشترك في ليبيا والذي أدى إلى الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي؛ ثم جاء التدخل الفرنسي في مالي، والآن الغارات الجوية الإسرائيلية في سورية. لا شك أن كل حالة مختلفة تماما، ولكنها تشترك جميعها في أمر واحد: وهو أن أميركا لم تكن على الخطوط الأمامية للتدخل، ورغم هذا، ففي غياب الدعم العسكري الأميركي المباشر أو الدعم السياسي غير المباشر (والضمني في بعض الحالات) من الصعب أن نتخيل أن مثل هذه العمليات المحفوفة بالمخاطر كانت ستنفذ. ولكن تُرى هل تحول البريطانيون، والفرنسيون، بل الإسرائيليون إلى امتدادات مسلحة للولايات المتحدة كل منهم في مجال نفوذه؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن التناقض مع الماضي القريب يصبح صارخا. ففي أعقاب الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001، لم يكن بوسع الأميركيين أن يتصوروا مجرد تصور تقاسم مسؤولياتهم الأمنية مع آخرين. ففي أفضل تقدير، كان الأوروبيون يلعبون دور "سيدات التنظيف" لأميركا، اقتباساً للقياس الخشن الذي صاغه في ذلك الوقت بعض مفكري تيار المحافظين الجدد أثناء فترة ولاية جورج دبليو بوش الأولى.

ولكن حتى قبل سبتمبر 2001، أعرب بعض المحافظين في الولايات المتحدة عن ازدرائهم لحلفائهم الأوروبيين، وما زلت أتذكر التحذير الذي جاء على لسان دبلوماسي أميركي كبير في ستراسبورغ في أوائل تسعينيات القرن العشرين، في عشية حروب البلقان: "إذا تركنا للأوروبيين تولي المسؤولية عن أنفسهم، فسوف يثبتون أنهم غير مسؤولين، ومنقسمون، وانتحاريون، وبعد ذلك سوف نضطر إلى إنقاذهم من أنفسهم". واليوم يبدي الأميركيون سرورهم العظيم بالاعتماد على الكفاءة العسكرية والميول التدخلية لدى بعض أصدقائهم الأوروبيين (في واقع الأمر عدد قليل جداً منهم).

إنه لأمر سهل أن نفسر هذا التحول بوصفه استجابة للتكاليف البشرية والاقتصادية التي ترتبت على تدخلات الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. غير أن الواقع أكثر تعقيدا.

إن ميل الولايات المتحدة مؤخراً إلى تفويض آخرين بتولي مسؤوليات عسكرية لم يكن ناجماً عن سلسلة من الأحداث، بل كان نتاجاً لعملية طويلة الأمد مدفوعة بالتناقض بين نظرة أميركا إلى العالم ومشاركتها النشطة فيه. فهل يستحق الأمر القتال من أجل عالم لا يمكن إنقاذه، ولا يستدعي سوى تشابكات غامضة وغير حاسمة؟

ومن هذا المنظور، فإن مشاركة أميركا في الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، كانت استثناء القاعدة، فقد كان المحرك الدافع للقوات الأميركية التي هبطت على شواطئ نورماندي في يونيو 1944 شعورها القوي بجسامة المهمة. وكان الجنود الأميركيون يدركون أنهم يحاربون الشر في بيئة مألوفة تاريخياً وثقافيا.

وفي فيتنام كان الجنود الأميركيون، وكثير منهم من ذوي البشرة السوداء، غالباً لا يفهمون لماذا يقاتلون. وفي العراق، كان نظراؤهم غالباً من أصول أميركية لاتينية، وكان الاندماج في المجتمع الأميركي بالنسبة إليهم- بما في ذلك الوعد بالإقامة الدائمة أو الجنسية لكثيرين منهم- لا يقل أهمية عن الإطاحة بنظام صدّام حسين.

عندما تندمج أي دولة في العالم، فإن سلطتها تنبع من استعدادها وقدرتها على خوض مجازفات "شخصية"، وتتضاءل هذه السلطة عندما تصبح الفجوة المتصورة بين قيمة حياة سكانها وحياة أعدائها واسعة لغاية.

وفي هذا الصدد، تعزز حرب الطائرات بدون طيار الطبيعة الضارة للحروب "غير المتكافئة". في كتابها الصادر حديثاً بعنوان "حرب الطائرات بدون طيار: القتل عن طريق التحكم عن بُعد"، تبرز ميديا بنجامين ناشطة السلام والمراقبة المخضرمة للعلاقات الدولية نقطة بالغة الأهمية: "في حين تقتل الطائرات بدون طيار بعض الأشرار، فإنها أيضاً تجعل الذهاب إلى الحرب أمراً أكثر سهولة".

وعلى نحو مماثل، من الممكن أن يؤدي تفويض الحلفاء بتولي الأمن إلى تأثيرات نفسية ضارة، ويصدق هذا بصفة خاصة في الشرق الأوسط، فكيف قد يتسنى للولايات المتحدة أن تفرض ضغوطاً على إسرائيل لحلمها على الدخول في مفاوضات جادة مع الفلسطينيين، أو الامتناع عن مهاجمة إيران، في حين تقدم الدعم والتشجيع- ولو من خلال الصمت العام- للتدخل العسكري الإسرائيلي في سورية؟ وإذا كان غرض أميركا هو تسليم رسالة إلى إيران- "حذار، فقد تكون بلدكم الهدف التالي"- فإن كثيرين سوف يشككون في مدى صدقها وإخلاصها بشأن تقييد إسرائيل.

في نظر البعض، انتقلت الولايات المتحدة من الإفراط في المشاركة في عهد بوش إلى تقديم أقل القليل من العون في عهد باراك أوباما. ويرى آخرون أن أوباما يواصل سياسة بوش الخارجية ولكن بوسائل أخرى؛ طائرات بدون طيار بدلاً من الجنود.

وقد تكون الحقيقة في مكان ما بين الأمرين، ولكن من الواضح أن هذا التوجه لا يفيد الولايات المتحدة، أو حلفاءها، أو الاستقرار العالمي. وعلى وجه التحديد، لأن أميركا تظل تُعَد دولة لا غنى عنها في المساعي الرامية إلى تحقيق الأمن الدولي، فإن المرء ليتمنى أن يعمل قادتها بشكل أكثر وضوحا. ففي السياسة الدولية، كما هي الحال في التعليم، لا يوجد شيء مثل الرعاية بالوكالة. ولكي تمارَس المسؤولية بفعالية فلا يجوز تفويضها إلى أجهزة أو دول أخرى.

* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، أستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس، وكبير مستشاري المعهد الفرنسي للشؤون الدولية، وأستاذ زائر لدى كينجز كوليدج في لندن.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top