كما نتعجب من حياة شعب الأسكيمو في قفار القطب الشمالي المتجمد فإن العجب نفسه ينصب على معجزة الحياة فوق رمال الصحراء الحارقة، كلتا الحالتين المتنافرتين في كل شيء تتفق على شيء واحد هو العيش على حافة الموت بكل ما تعنيه تلك الكلمة من معنى، الموت من التجمد والموت من الحرارة.

Ad

هذا النوع من الحياة المتأرجحة باستمرار يفرض قوانينه الصارمة على أفراد القبيلة في صحراء الجليد والرمال؛ لأن الخطأ قد يعني فقدان طرف أو حياة بأكملها، كما أنه يفرض قانوناً لا مجال للمجاملة أو التلاعب فيه، وهو شروط القائد ومن سيحمل وزر حماية أرواح أفراد القبيلة من الخطر.

زمان "أول" راح وولى وما زال شعب الأسكيمو يهوى العيش في مكعبات الجليد التي تطورت لتصبح بيوتا أكثر دفئاً وأماناً، ومواصلاتهم "عافت" الكلاب التي تجرّ الزلاجة خلفها، أما صيد الأسماك فلم يعد ضرورياً أن "يحدق" كل فرد طعامه برمح بعد توافر البنادق والأسواق، ولكن لا يكون فرد الأسكيمو "أصلياً" ما لم يأكل لحم الفقمة نيئاً.

الأمر نفسه، أي تطور الحياة، حصل مع قبائل الصحراء التي لم تعد تعيش الحياة الصعبة نفسها بعد فقدانها صفة "الترحال" واكتسابها صفة الاستقرار والعيش في غابة أسلاك الكهرباء وأنابيب المياه العذبة، وبيت ثابت له عنوان ثابت وجيران مختلفون.

ذلك النسق من الحياة المليئة بالمخاطر والتنقلات المستدامة، أصبح نمطا قديما لا تتم العودة إليه سوى للتسلية واكتساب اللياقة البدنية، ومعه ذهبت المشيخات القديمة بصورتها التقليدية، مشيخة الجليد ومشيخة الرمال على حد سواء، ولم يستمر منها سوى رابطة الدم والذكرى الطيبة، وشيء من "التأمين" ضد مخاطر الزمن وحياة المدنية المتوحشة التي تفتك بالعلاقات الدافئة، وصفو أمان المدينة وحياة الدولة.

لقد ترددت كثيراً في استعمال لفظ "المشيخة" على واقعنا السياسي، وهو مفهوم يحتل مكانة رفيعة في التحليل الذي يستعمله سياسيون كثر لهم لدينا مكانة وتقدير عاليان، ولكن بمراجعتي لمفهوم "المشيخة" ودورها في تاريخ قبائل العرب، ومقارنتها مع التحليل الذي ينتهي بأن كل الإجراءات التي تعيشها الكويت تقودها إلى نظام المشيخة، قلت أول ما قلت، ليتها كانت مشيخة... ليتها كانت مشيخة.

في نظام المشيخة لا مجال للعبث أو التلاعب بمقدرات "حلال" أبناء القبيلة، وكل "راس" يروح هدراً "الشيخ" محاسب عليه، في المشيخة هناك أعراف صارمة في العلاقة بين أفراد القبيلة تقترب من حالة "المساواة"، وأعراف صارمة بين القبائل تضمن حقوق أفرادها، ومن يتجاوز ويرتكب "العيبة" يحاسب كائناً من كان، وقد ينبذ ويترك وحيداً في الصحراء لا يجد من يؤويه أو "يخاويه".

في نظام المشيخة يشعر الفرد مع الجماعة بالأمان والتكافل، الكل يأكل من طبق واحد والكل يفرح مع السعيد ويحزن مع المكلوم، مستويات الشفافية في نظام المشيخة "حد أعلى"، عدد أفراد القبيلة مكشوف وعدد رؤوس أغنام "الشيخ" تحت الشمس، ومن يسرق فسرعان ما يفتضح أمره ويشيع بين "العربان".

في الختام لا بد من مراجعة الكثير من المصطلحات السياسية التي نستعملها، ومن بينها "نظام المشيخة" و"التنظير" عندما تأتي من أهلها وفي الوقت المناسب لا "تضير"، خاصة أن عدد مستهلكي تلك المصطلحات كبير، ونحن بالانتظار.