من خسر سورية؟ تشير التعليقات التي أطلقها بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي وبعض المحللين والصحافيين، بما في ذلك هيئة تحرير هذه الصحيفة، إلى أن بشار الأسد وأعضاء نظامه الوحشي هم أول المسؤولين عن أعمال القتل، لكن تُعتبر المأساة الحاصلة في سورية نتيجة مباشرة أيضاً لفشل رهيب في القيادة داخل المجتمع الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة.

Ad

يُقال إن سورية هي نسخة مكررة عن رواندا بالنسبة إلى باراك أوباما... لكن لا تصدقوا ذلك. تعكس الفكرة المتعلقة بإمكانية الفوز بسورية أو خسارتها أو بقدرة الولايات المتحدة على تحديد نتيجة الأحداث هناك النزعة النموذجية المتغطرسة والتحليل الشائب الذي أغرق هذا البلد في مشاكل الشرق الأوسط على مر السنين.

من حسنات الربيع-الشتاء العربي أنّ الشعب العربي أصبح مسؤولاً عن شؤونه السياسية سواء كانت جيدة أو سيئة. يصعب مشاهدة هذا الشعور بحق تقرير المصير في أغلب الأحيان (لا تكون الديمقراطية ليبرالية دوماً)، ولكنّ هذه النزعة أوصلت السلطة والشرعية إلى الاضطرابات السياسية التي تجتاح المنطقة منذ أواخر عام 2010. هذا ما جعل التغيير حقيقياً ومحلياً. لم تكن الولايات المتحدة أو إسرائيل جزءاً محورياً من الأساطير والشعارات والخطابات التي طبعت تلك التغييرات التاريخية، ويجب ألا تكونا جزءاً منها أصلاً.

دعا البعض إلى التدخل عبر محاولة تكرار تجربة ليبيا: ساعدنا الثوار على إسقاط معمر القذافي، فما الذي يمنعنا من تكرار الأمر نفسه في سورية؟

تبرز ثلاث وقائع متداخلة للإجابة عن هذا السؤال: أولاً، حصل إجماع دولي على التحرك في ليبيا، وقد حدث ذلك بشكل أساسي عبر الأمم المتحدة وحلف الأطلسي. ثانياً، لم تكن ليبيا مهمة من الناحية العسكرية: كان نظامها ضعيفاً، ولم تكن دفاعاتها الجوية فاعلة، ولم تكن تملك أسلحة دمار شامل أو أي حلفاء تعتمد عليهم. ثالثاً، سيطر الثوار الليبيون على بعض الأراضي المعزولة وكان يسهل أن ينظموا أنفسهم فيها.

لكنّ الوضع السوري مختلف تماماً. تجمع سورية أسوأ الجوانب من ثلاثة عناصر متقلبة: الحرب الأهلية، والعنف الطائفي، والتلاعب من القوى الخارجية. قد يكون الرأي القائل إن الولايات المتحدة خلقت هذه الفوضى منطقياً لو توافرت خيارات جيدة للتدخل في مرحلة سابقة كانت ستمنع هذا المصير.

لكن لم يكن الوضع كذلك مطلقاً؛ صحيح أننا كنا نستطيع بذل المزيد من الناحية الإنسانية أو أداء دور فاعل في مرحلة أبكر للمساعدة على تنظيم المعارضة السياسية، ولو بشكل سري، لكن بما أن هذا الصراع بدأ في عام 2011، فكانت جميع خيارات التدخل العسكري تحمل مجازفات أكثر من المكافآت.

نظراً إلى القوة العسكرية التي يتمتع بها نظام الأسد وحلفاؤه (أعاقت روسيا والصين القرارات في مجلس الأمن ووفرت إيران الأموال والأسلحة)، ونظراً إلى إصرار الأسد على القيام بكل ما يلزم للصمود ونجاحه في الحفاظ على ولاء معظم العلويين في الجيش وجهاز الأمن والاستخبارات، لم تكن أيٌّ من الخيارات العسكرية المقترحة فاعلة بما يكفي لإسقاط النظام أو ضمان فوز الثوار.

لوقف اعتداءات النظام أو حتى إسقاطه، كان لا بد من فرض ضغوط عسكرية مباشرة أو ربما شن حملة جوية وصاروخية مكثفة واستعمال قوة تدخل على الأرجح. لكن لم تكن تلك الأفكار قيد البحث الجدي أصلاً. كانت التدابير الجزئية، مثل تسليح الثوار وفرض حظر جوي، تحمل مجازفات كثيرة من دون ضمان النتائج المنشودة. لم يتضح مطلقاً كيف يمكن أن يساهم الرد العسكري المحدود في رسم مسار الأحداث. لم يستطع المخططون الأميركيون التأكد من أن الرد العسكري لن يدفع روسيا وإيران إلى تصعيد الوضع وتوفير كميات إضافية من الأسلحة. وبما أن واشنطن كانت تسعى إلى كسب دعم موسكو لمتابعة الضغط على برنامج إيران النووي، لم يكن تصعيد الوضع في سورية ليساعدها في هذا الملف.

على صعيد آخر، من هي الجهة التي كنا نريد تسليحها؟ حالما تدعم الولايات المتحدة جماعة ثورية معينة، ستصبح واشنطن مسؤولة عن أفعالها. ربما تشارك الدول المجاورة، مثل المملكة العربية السعودية وقطر، في تسليح الأصوليين السُّنة في سورية، لكن لا تقوم الولايات المتحدة بالمثل. في ما يخص الأتراك، لم تمنع إدارة أوباما رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان من التحرك عسكرياً، لكن واجه أردوغان ضغوطاً داخلية قوية: لم يشأ الرأي العام أو العلويون الأتراك الذين يدعمون العلويين السوريين لأسباب إثنية (عددهم 15 مليون نسمة) خوض الحرب مع دمشق.

ترافقت مأساة سورية مع حملة مفرطة من سفك الدماء لدرجة أن أحداً لا يستطيع تخيّل إمكانية التوصل إلى تسوية يتم التفاوض عليها بين النظام والمعارضة (لكن لم تكن تلك الأهوال كافية لإجبار المجتمع الدولي المنقسم والمنشغل بمصالحه الخاصة على التدخل).

لن نعلم مطلقاً ما كان ليحصل لو أن الولايات المتحدة تدخلت بطريقة أكثر عدائية، لكنّ من يلوم واشنطن على تفاقم هذه الأزمة أو يعتبر أن إدارة أوباما هي التي زادت الوضع سوءاً لا يفهم الطبيعة الوحشية للمأساة السورية وحدود النفوذ الأميركي وأولوياتنا الوطنية. تركز الولايات المتحدة على الخروج من أطول حربين في تاريخها، علماً أن معيار الفوز في تلك الصراعات لم يكن يتمثل يوماً بسؤال "هل نستطيع الفوز" بل "متى نستطيع المغادرة؟".

يشير استطلاع رأي حديث يتناول احتمال التدخل في سورية إلى أن الشعب الأميركي يتفهم هذا الوضع، حتى لو كان الأشخاص الذين يطالبون بتنفيذ تحرك أميركي عدائي لا يفهمونه. يجب ألا يؤدي الأميركيون دوماً دور الشرطة في العالم وألا يكونوا مسؤولين عن معالجة جميع المآسي. نحن لا نسيطر على التاريخ، وقد حان الوقت كي نحاول إصلاح وضعنا المحلي المتدهور بدل التجول في أنحاء العالم لمحاولة إصلاح أوضاع الآخرين.

* آرون ديفيد ميلر | Aaron David Miller ، نائب رئيس المبادرات الراهنة في مركز وودرو ويلسون الدولي للعلماء وقد كان مستشار وزراء الخارجية الديمقراطيين والجمهوريين في شؤون الشرق الأوسط. تشمل مؤلفاته الكتاب المرتقب "هل تستطيع الولايات المتحدة الحصول على رئيس عظيم آخر؟" (Can America Have Another Great President?).