لم تتح لي الظروف زيارة المخرج المُبدع سعيد مرزوق، بعد إصابته بأزمة صحية أدت إلى بتر ساقه، لكنني كنت أتابع تطور حالته المرضية، إلى أن شاءت الأقدار أن أزوره أخيراً، وفوجئت بعد عامين من رحلته العلاجية بين مصر وألمانيا، بأنه لم يغادر أسوار المصحة العلاجية، وأنه لم يعد إلى بيته بعد، لكنه انتقل من مستشفى في قلب العاصمة المصرية إلى منتجع طبي على طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي، ليخضع لمرحلة التأهيل والعلاج الطبيعي!

Ad

كانت زوجته الرقيقة قد رتبت موعد اللقاء، وفور وصولي إلى المنتجع استقبلتني بحفاوة أكدت لي أن «وراء كل عظيم امرأة أعظم»؛ فقد كانت رابطة الجأش، قوية ومؤمنة بقضاء الله، ولديها ثقة كبيرة في أن رفيق حياتها سيجتاز الأزمة، على رغم صعوبتها وقسوتها، وأبلغتني أن سعيد سيكون معي بعد دقائق، وفي الموعد المحدد بالضبط أطل المخرج الكبير، وهو جالس على كرسي متحرك، لكن ابتسامته لم تفارق وجهه البشوش، وفي عينيه نظرة لوم وعتاب لأنني تأخرت في زيارته، لكنه فرح بحدوثها أخيراً، ولسان حاله يقول: «تتأخر طويلاً خيراً من ألا تأتي أبداً»!

سألته، وكنت مُحيراً بالفعل، عن السبب في الأزمة الصحية التي باغتته، فأكد لي أنها وعكة بسيطة أخطأ الطبيب المعالج في تشخيصها، وتأخر في علاجها فكانت الآثار السلبية التي أدت إلى بتر أصابع قدمه، واستدعت سفره إلى ألمانيا، حيث اضطر الأدباء إلى اتخاذ قرار عاجل ببتر الساق قبل استشراء المرض في بقية الجسد، لكنه، وبإيمان عظيم بالله وثقة في مشيئته وتفاؤل لم يفارقه، راح يُشيد بالدعم المعنوي الذي لاقاه من رفاق مسيرته الفنية والعاملين في الوسط الفني، الذين لم ينقطعوا يوماً عن السؤال عنه، والدعاء له، وهو ما ينفي، حسبما أكد لي، كل ما كان يُساق عن ظاهرة الجحود والنكران وعدم الوفاء التي تستشري في الحقل الفني، وأبدى دهشته لما لمسه بنفسه من مظاهرة حب عارمة لم تخطر على باله. لكن دهشته انقلبت إلى فرحة طاغية بأولئك الذين لم يعرفهم يوماً، ولم تربطه بهم علاقة عمل فني أو رباط إنساني، لكنهم بادروا بالسؤال عنه والاطمئنان على صحته، ولم يتوقفوا عن متابعة تطور حالته الصحية، سواء في المستشفى أو في منتجع العلاج الطبيعي، ووصفهم بقوله: «فعلوا معي مالم يفعله أشقائي»!

لم أشأ أن أتدخل بالسؤال عن موقف الدولة المصرية ممثلة بوزارة الثقافة تجاه ابن من أبنائها المبدعين، لكنه أعفاني من مشقة السؤال وحكى لي واقعة مخجلة حول صدور قرار بعلاجه في الخارج على نفقة الدولة، وتم رصد مبلغ ثمانية آلاف يورو، لكنه فوجئ فور وصوله إلى ألمانيا بأن المطلوب منه أن يُسدد، علاوة على المبلغ الذي خصصته الدولة، ما قيمته 25 ألف يورو، الأمر الذي دعاه إلى اتخاذ قرار سريع بإلغاء رحلته العلاجية، والعودة إلى مصر لكن عددا من المصريين العاملين في الخارج، فضلاً عن المطرب محمد منير الذي تصادف وجوده هناك، تدخلوا ونجحوا في تدبير المبلغ المطلوب، وأكمل رحلته ولكنه عاد إلى مصر وفي حَلْقه غُصَّة، وفي نفسه مرارة، وجرح لم يندمل حتى يومنا هذا جراء الإهمال واللامبالاة والبيروقراطية والحسابات غير الدقيقة للمسؤولين!

صدمة أخرى لم أتوقعها كشف عنها المخرج الكبير سعيد مرزوق عندما أكد لي أن د. محمد صابر عرب هو وزير الثقافة الوحيد الذي زاره وسأل عنه، بينما لم يكلف وزراء الثقافة السابقون؛ أمثال: فاروق حسني، د.عماد أبو غازي ود.شاكر عبد الحميد، أنفسهم مغبة السؤال الهاتفي عنه، على عكس د. أشرف زكي نقيب المهن التمثيلية السابق، الذي أدى دوراً كبيراً في تأمين نفقات علاجه، قبل أن يستكمل الدور مسعد فودة النقيب الحالي لنقابة المهن السينمائية، الذي بذل قصارى جهده في حدود الإمكانات الهزيلة للنقابة، وفقر صندوقها!

سعيد مرزوق لمن لا يعرف قيمته ومكانته مخرج فيلمي «زوجتي والكلب» (1970) و{الخوف» (1972) اللذين حصدا الكثير من الجوائز، وحفرا اسمه في قائمة المخرجين الأكثر موهبة والأفضل إبداعاً، إضافة إلى «أريد حلاً» (1975) الذي كان له فضل تغيير قانون الأحوال الشخصية في مصر، و{المذنبون» (1976) الذي تسببت جرأته في مناهضة الأوضاع السياسية والاجتماعية في إقالة اعتدال ممتاز رئيس الرقابة على المصنفات الفنية وعدد من الرقباء، وانتهت الأزمة بإقالة جمال العطيفي وزير الثقافة آنذاك، وهو أيضاً مخرج أفلام: «إنقاذ ما يمكن إنقاذه» (1985)، «أيام الرعب» (1988)، «المغتصبون» (1989)، «أي أي» (1992)، «هدى ومعالي الوزير» (1995)، «المرأة والساطور» (1997) و{جنون الحياة» (2000). لكنه أسقط من حساباته فيلمي «الدكتورة منال ترقص» (1991) و{قصاقيص العشاق» (2003) لعدم رضاه عنهما. فهل يستحق مبدع كبير مثل سعيد مرزوق ذلك الجحود الذي يواجهه من مصر في الوقت الذي تكفلت دولة قطر بنفقات علاجه؟ وهل يليق بنا أن نهمل في حقه، ونتركه وحيداً يُعاني المرض والتجاهل معاً؟