في حوار طويل أجريته مع المخرج الكبير سعيد مرزوق، شفاه الله، حول دور النقد والنقاد، أكد لي أهمية هذا الدور وكشف لي واقعة كان بطلها، فعندما كان يتجوّل في أحد شوارع باريس شاهد قصاصة ورقية تتصدر إحدى قاعات السينما، ولأنه لا يجيد التحدث باللغة الفرنسية، حسبما قال لي، أصرّ على أن يُدرك السر وراء اهتمام القاعة بهذه القصاصة، فكان الرد بأنها صورة ضوئية لمقال كتبه ناقد سينمائي فرنسي شهير يُشيد من خلاله بالفيلم، ولأن الفرنسيين يُقدّرون مكانة النقد، ويولون أهمية لما يكتبه النقاد، سارعت دار العرض إلى استثمار المقال للترويج للفيلم والدعاية له!

Ad

  تلك الواقعة التي نوه إليها مرزوق أعادت إلى ذاكرتي مرحلة لم تكن مصر بعيدة فيها عن إتباع هذا التقليد الطيب؛ ففي مدخل سينما «ميامي»، وفي صالات أخرى كانت تملكها الدولة، باستثناء سينما «مترو{، وعلى مقربة من شباك التذاكر، كانت اللوحات الإعلانية التي تحميها الألواح الزجاجية، تضمّ، مع صور الدعاية للفيلم المعروض، قصاصات ورقية تقتبس جملاً نقدية من مقالات نقاد معروفين، بل انتقل التقليد يومها إلى الإعلانات التي تنشرها شركات الإنتاج والتوزيع في الصحف اليومية؛ إذ كانت تستعيض عن صورة ملصق الفيلم بجمل «مأثورة» مقتبسة من مقالات المديح التي كتبها كبار النقاد!  

تقليد جميل كان يحمل في طياته احتراماً لمكانة النقد السينمائي، وتقديراً للدور الذي يؤديه النقاد في المجتمع المصري، واعترافاً بحجم التأثير الذي يُحدثه «المقال النقدي» لدى شريحة واسعة من الجمهور. لكن التقليد تراجع، قبل أن يختفي تماماً، كذلك اختفت اللوحات الإعلانية الزجاجية التي كانت تتصدر مداخل الصالات السينمائية وتتفنن في توظيف فن التصوير الفوتوغرافي لغواية «رجل الشارع»، ودفعه إلى دخول قاعة العرض لمشاهدة الفيلم الذي طالع، منذ قليل، لقطات فوتوغرافية لأهم مشاهده، ولأبرز نجومه!

اختفاء القصاصات التي تستعير جملاً نقدية، وإقصاؤها بعيداً عن اللوحات الدعائية والإعلانات الصحافية، كانا بمثابة إقرار من المنتجين والموزعين بأن تأثير النقد تراجع، وإيحاء منهم بأن أحداً لم يعد يثق بقدرة أي ناقد على كتابة المقال الذي يدفع الجمهور إلى ارتياد صالات العرض السينمائي، والتجاوب مع فيلم بعينه وتجاهل فيلم آخر، بل راج في الفترة الأخيرة أن الفيلم الذي يمدحه النقاد يواجه انصرافاً جماهيرياً ملحوظاً، بينما يتجاوب الجمهور مع الفيلم الذي يصبّ النقاد جام غضبهم عليه، ويتهمونه بالركاكة والسطحية والابتذال!

هذه الثقة التي تراجعت بصورة واضحة في الوقت الراهن، مُقارنة بما كان الوضع عليه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تعكس، على الجانب الآخر، تغيراً جذرياً في حالة الجمهور المصري المزاجية، وانصرافاً نوعياً عن الاهتمام بالسينما بوصفها وسيلة ثقافية، فضلاً عن كونها غاية للترويح عن النفس، كنتيجة طبيعية لتنامي ظاهرة التطرف الديني والتحريض ضد الفن وتحريمه، إذا لزم الأمر، وما ترتب على ذلك من تقليص للمساحات النقدية، وإفساح المجال للآراء الانطباعية أو المجاملات المجانية الفجة، وعدم النظر إلى النقد باعتباره قوة فاعلة قادرة على إحداث فعل التغيير.

لا يمكننا بالطبع أن نعفي الحركة النقدية من المسؤولية عما حدث من تراجع خطير في التأثير والقدرة على استقطاب الجماهير؛ فالجيل القديم من النقاد إما رحل أو اعتزل أو خفت حماسته، وزهد بكتابة النقد السينمائي، وتفرغ لتسيير حياته الشخصية، بينما تعجل الجيل الجديد الوصول إلى لقب «ناقد»، وأصبح كل من يكتب خبراً فنياً يتصور أنه جدير باللقب، من دون بذل جهد يؤهله ممارسة هذا الدور، أو يملك مقومات علمية وثقافية تتيح له ملء الفراغ الذي خلفه غياب «جيل الأساتذة» مثل: سامي السلاموني، رؤوف توفيق، رفيق الصبان، أحمد رأفت بهجت، مصطفى درويش، خيرية البشلاوي وسمير فريد؛ فالبراعة في تفكيك الفيلم السينمائي وتحليله وتقويمه توارت ليحل محلها تهافت رخيص على الاهتمام بسرد «الحدوتة»، ومجاملة النجوم والشركة المنتجة، وكأن الهدف من النقد تحقيق مكاسب شخصية ومادية!

تراجع الحركة النقدية السينمائية انعكاس طبيعي لتراجع المد الثقافي في المجتمع المصري، وشيوع «ثقافة الاستسهال»، وظهور حركات وجماعات تسعى إلى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، وتحطّ من شأن الفن والفنانين، وتحرّض المجتمع على كراهيتهم.

بكل أسف، أسهمت الحركة النقدية في تكريس هذا المناخ بغياب دورها الثقافي الفاعل، وتقصيرها في تفنيد مزاعم التيار الرجعي وأباطيله، والأهم فشلها الذريع في مواجهة الأفلام الرخيصة، ما أفقدها ثقة الجمهور وشركات الإنتاج واحترامهما على حد سواء!