في ستينيات القرن الماضي وصف وزير مالية فرنسي قدرة الولايات المتحدة على الاقتراض عبر عملتها بأنها "ميزة مفرطة" وذلك بفضل قوة الدولار ووضعه كعملة احتياط دولية. وكانت تلك ميزة اضطرت بقية دول العالم إلى دفع ثمنها، بطريقة أو بأخرى. وقد أعطى ذلك الوضع في الآونة الأخيرة العديد من حكومات الأسواق الناشئة سبباً للتذمر والشكوى.

Ad

ولو أن الإرادة توافرت لتلك الحكومات لكان في واحدة أو أكثر القيام بعمل من نوع ما إزاء ذلك الوضع. وربما حان الوقت لمثل ذلك العمل.

وقد برزت تلك القضية خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد أن تسبب مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي) الأميركي بزعزعة الأسواق العالمية من خلال الإشارة إلى نيته وقف برنامج التسهيل المالي والبدء بتشديد سياسته النقدية- كان هذا على الأقل ما ظن المستثمرون أنه الهدف المقصود من كلام مجلس الاحتياط الفدرالي. وقد طرأت عمليات بيع مكثفة تسببت في هبوط الأسعار في أسواق الدخل الثابت العالمية، وشهدت الكثير من الدول الناشئة تراجعا في قيمة سنداتها وأسهمها وعملاتها.

وقبل وقت ليس بعيد، تعالت حكومات أسواق الدول الناشئة بالشكوى من سياسة التحفيز التي أعلنها مجلس الاحتياط الفدرالي، مشيرة إلى أن التدفقات المالية التي جرى ضخها تسببت في زعزعة الوضع، واضفة إياها بأنها بمنزلة "حرب عملات" ومحاولة ترمي إلى تصدير البطالة إليها وإلحاق الضرر بصادرات الاقتصادات الناشئة والعمل على إخراجها من الأسواق الأميركية.

الآن ها هو القلق يتملك تلك الحكومات لأن السياسة قد وصلت إلى نهايتها مثلما هي الحال بالنسبة إلى نهاية مرحلة "الميزة المفرطة" للولايات المتحدة للاقتراض بفضل عملة الاحتياط الدولية.

وأذكر أن رئيس فرع مجلس الاحتياط الفدرالي في نيويورك بيل دادلي- وهو زميل سابق لي في مجموعة "غولدمان ساكس"– حذرني قائلاً "عليك توخي الحذر إزاء ما ترغب فيه"... وقد كان حديثه في غير هذا السياق تماماً، ولم يكن مرتبطا بتلك القضية، حيث كنّا نناقش الأخطار المتعلقة بانكماش العجز في الحساب الجاري في الولايات المتحدة بسرعة كبيرة في وقت لا يزال الطلب العالمي فيه ضعيفاً- ولكنها على الرغم من ذلك كانت نصيحة جيدة.

التأثيرات المالية

كان لتحول مجلس الاحتياط الفدرالي نحو سياسة التحفيز ذات الزيادات المتصلة، تأثيره الواسع على الصعيد المالي، بما في ذلك تدفق أموال جديدة على بدائل السندات الأميركية. ومع تصاعد منحنى التيسير الكمي تفاقمت تلك التأثيرات المالية، وكان أن اختار العديد من المستثمرين الاعتقاد بأنهم توصلوا إلى استراتيجية استثمارية بارعة تعتبر أن كل المطلوب منهم أن يفعلوه هو السعي وراء جني المزيد من الأرباح. وفي وسع المرء أن يلحظ الفارق عندما تدخل العملية مسارها العكسي، خصوصاً إذا ما تسبب ذلك في مباغتة الناس حين تتردد جملة أخرى في العقول تقول: على السلالم المتحركة الاتجاه إلى أعلى والمصاعد إلى أسفل.

بالنسبة إلى الدول الناشئة قد تكون هذه التحولات من صعود وارتداد مسألة يصعب التعامل معها، وهي أشد قسوة على الدول التي تعاني عجوزات متصاعدة في حساباتها الجارية وميزانها التجاري لأنها اعتادت الحصول على رسملة سهلة المنال وقليلة التكاليف. ومن ثم، يكون عليها استبدال تلك الوسيلة الرأسمالية السهلة باللجوء إلى المزيد من المدخرات المحلية أو إلى السياسات الجاذبة للتدفقات المالية الطويلة الأجل والمستقرة أو إلى العنصرين معاً.

الخطوة الأفضل

وتتمثل الخطوة الأفضل بمنع تراكم العجز في الحساب الجاري في المقام الأول: وتكون هذه في العادة إشارة إلى الإفراط في الاعتماد على تدفقات رؤوس الأموال الساخنة. ويتعين على الدول الناشئة بصورة عامة أن تحاول تفادي الاعتماد على معادلة "التوازن الأولية" السريعة (العجز في الحساب الجاري ناقص تدفقات رؤوس الأموال طويلة الأجل)، وهي مسألة يندر أن تنتهي بصورة جيدة. فالتدفقات القوية للاستثمارات الخارجية المباشرة تعتبر مسألة يمكن التعويل عليها بصورة نسبية؛ كما أن تدفقات المحافظ الاستثمارية- التي تتسم بحساسية إزاء معدلات الفائدة- هي أقل موثوقية في الاعتماد عليها أيضاً إلى حد كبير. ومن بين أكبر الدول الناشئة المعرضة لتلك الأموال تأتي الهند وتركيا... وكانت البرازيل تزحف في هذا الاتجاه نفسه.

التغيرات المفاجئة في الاتجاه الفعلي أو المتصور لسياسة مجلس الاحتياط الفدرالي يمكن أن تضاعف من أوضاع الدول التي لا تسمح بمرونة كافية في معدلات الصرف، حتى إذا كان وضع ميزان المدفوعات لديها ليس سيئاً.

ويرجع السبب إلى أنها تسمح لسياسة مجلس الاحتياط الفدرالي بالهيمنة على سياستها النقدية الداخلية- إذ إن معدلات الصرف الثابتة تسد الطريق تماماً أمام استخدام السياسة النقدية الداخلية بصورة تامة- كما تؤدي إلى التضحية بقدرتها على إضفاء الاستقرار على أوضاعها الاقتصادية وتعرضها للتقلبات. وتمثل هونغ كونغ حالة استثنائية في هذا الصدد: فقد ارتبطت عملتها بصورة ثابتة بالدولار الأميركي، وسمح للعملة الصينية "الرينمينبي" بمزيد من المرونة غير أن كثيرين يقولون إن الجزيرة تندرج ضمن الفئة ذاتها المعرضة للمتاعب.

الالتزامات القانونية

هل كل ما يحدث في هذا الشأن خطأ مجلس الاحتياط الفدرالي؟ ليس حقاً. لدى البنك المركزي الأميركي التزامات قانونية لإبقاء التضخم منخفضاً ومستقراً، علاوة على الوصول إلى مستويات التوظيف الكامل في الولايات المتحدة. وقيمة الدولار وتداعيات تقلباته على بقية دول العالم لا تعني مجلس الاحتياطي الفدرالي إلا إذا كان لذلك مضاعفاته على الاقتصاد الداخلي.

وربما كان من العدل على أي حال أن نطلب من مجلس الاحتياط الفدرالي توخي الحذر في تصريحاته وبياناته، خصوصاً عندما يلمح إلى إجرائه تغييرا تجاه سياسة نقدية راسخة. ومن المرجح أن يكون ذلك مثيراً للاضطراب لأن المستثمرين في شتى أنحاء العالم يميلون إلى اتباع الاتجاه السائد، ولأن العديد منهم تبنى فكرة "لا تعمل مطلقاً على محاربة مجلس الاحتياط الفدرالي".

ونظراً لأن مجلس الاحتياط الفدرالي سوف يواصل ما يقوم به من عمل يتعين على الدول الناشئة التفكير في نوعين من العلاج لـ"الميزة المفرطة": الأول: يتعين على الدول ذات العجز الكبير في الحساب الجاري- مثل الهند- أن تركز على اجتذاب تدفقات مالية أكبر من رؤوس الأموال الطويلة الأجل، وربما بالإضافة إلى العمل على زيادة المدخرات الداخلية. والثاني: يتعين على الاقتصادات إضفاء المزيد من المرونة على معدلات الصرف وطرح عملاتها للتداول- وهو ينطبق على الصين- في الأسواق العالمية.

واقتصاد الصين كبير جداً إلى درجة إعطاء السياسة النقدية الأميركية القدر ذاته من القوة التي تتمتع بها في دورة أعمالها. ويتعين على بكين الاستمرار في تحرير التجارة والحساب الرأسمالي لميزان المدفوعات بالتوازي مع ضرورة إجراء المزيد من المرونة والتحريك لعملتها المحلية.

وأتفهم تماماً أن الاتفاقية النفطية التي أعلنت أخيراً بقيمة 270 مليار دولار لخمس وعشرين سنة بين شركة "روسنفت" الروسية ومؤسسة البترول الوطنية الصينية CNPZK سوف تتم تداولها بين الجانبين بالروبل والرينمينبي، لهي الطريقة للتعامل مع الدولار القوي والسياسة النقدية الموجهة داخلياً من مجلس الاحتياط الفدرالي.... وتبقى الحقيقة أن هناك الكثير من الصفقات والعمليات التجارية والمالية في العالم يتم تداولها بالدولار... فـ"الميزة المفرطة" مستمرة منذ زمن طويل جداً حقاً.

* جيم أونيل | Jim O Neill ، الرئيس السابق لبنك غولدمان ساكس لإدارة الأصول، والسكرتير التجاري في وزارة المالية البريطانية، وأستاذ فخري في علم الاقتصاد في جامعة مانشستر، وباحث زائر في مركز أبحاث الاقتصادية بروغل.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»