موسيقى الشتاء 2013

نشر في 03-01-2013
آخر تحديث 03-01-2013 | 00:01
 فوزي كريم لي في حديقة البيت شجرةُ تفاح وأخرى غير مثمرة. كلا الشجرتين عارٍ، وكأنْهما رُسمتا بقلم الرصاص. أوراقُ الأغصان التي كانت كثيفةً في الصيف انتزعها الخريفُ ونثرها على عشب الحديقة. الشتاءُ أفْقدها ألوانَها التي أتذكرها صفراءَ، برتقاليةً، بنيةً مشوبة بالحمرة وبحواف داكنة. بقايا التفاح التي أسقطها الخريفُ أيضاً حفظها بردُ الشتاء من التعفّنِ، فبقيتْ، هكذا تبدو من بعيد، ضعيفةَ الخضرة، وتعكسُ الأفقَ الغائمَ بحيوية. مخزنُ الحديقة الخشبي يهمد ثقيلاً، كعجوز متداعٍ في الركن القصي. وسورُ الحديقة الخشبي يبدو منهكاً هو الآخر بفعل تهدّل بعض أضلاعِه أو تساقطِها.

كان هذا المشهد الذي أرصدُه عبر النافذة منقوعاً بماء المطر، والمطرُ مازال ينهمر باعتدال، ولكن بنفَسٍ متواصلٍ معزّزٍ بثقةٍ عالية لا تهن ولا تلين. الطيورُ الرماديةُ الداكنةُ بالغةُ الحيوية في التهام بقايا التفاح بمناقيرها. ورُغمَ البلل والمطرِ تراها غير هيّابةٍ، ولها سعةٌ في حرية اختيارها. فهي تتهادى على قصبتين ناحلتين بين تفاحةٍ وأخرى، ولا تتقافز وكأن ماءَ المطر أثقلَ أجنحتها.

وراء سور الحديقة الخلفي حديقةٌ عامةٌ مقفلة عن الجمهور، وفيها أشجارٌ ضخمة، عالية وعارية طبعاً. عريُها يكشف عن عشرات الأعشاش التي هجرتها الطيور. مرسومة هي الأخرى بقلم الرصاص، ولكن بغير الدقة التي عهدْتُها في الجذوعِ وعيدانِ الأفرع. في الفجر المبكّرِ لم أعدْ أسمع الأصواتَ المتبادَلةَ للطيور، التي كانت تحتفي بيقظتي طوال الربيع والصيف وأوائل الخريف. الأعشاشُ الآن لها صوت موسيقي مختلفٌ في ساعات الصحو، أو في الساعاتِ الممطرة كهذه. صوتُ آلة هوائية، ولكن لا أثر لها بين آلات الأوركسترا. واللحنُ الذي تصدره لم يخطرْ على رأس موسيقي. حين كانت الأعشاشُ آمنةً بين الأغصان الكثيفة، في الفصولِ الثلاثة، قبل أن يحلّ الشتاء، كانت آلاتُها الموسيقية أكثرَ من مألوفةٍ داخلَ الأوركسترا، وألحانُها أكثرَ من مألوفةٍ في حناجر المنشدين.

فإذا كان الموسيقي "برامز" منذوراً لفصل الخريف، فالفصولُ الثلاثةُ تتوزع الموسيقيين جميعاً، وبدون استثناء. خذْ "باخ" و"موتسارت" و"شوبرت". ولكن ما من آلةٍ ولا أوركسترا ولا موسيقي يقربُ فصلَ الشتاء. حتى لو أعتم الموسيقي ألماً، مثل "مالر" أو "تشايكوفسكي" ، إلا أن عتمةَ الألم هذه لا تسمح بتسرب مجرى باردٍ من الشتاء. هناك جهازُ مناعةٍ طبيعيٌّ في الموسيقى ضد تطفًّل الشتاء.

ومن النافذة كنتُ أتأملُ حديقةَ البيت. أتأملُ الأشجارَ العاريةَ، والأعشاشَ المهجورةَ، وأُصغي إلى صوتِ موسيقى الأعشاشِ المختلف. الصوتُ الموسيقيُّ الذي ينتسبُ إلى الشتاء وحده. ولكن ثمة هارموني واضح المعالم بين المخزنِ الخشبيِّ الهامدِ، والأسيجةِ المتآكلة، والطيورِ التي تُقبلُ من أعشاش في المجهول، وحباتِ التفاح التي لم تتعفَّنْ، والأوراقِ التي غطتْ العشبَ بكثافةٍ وبلا لون، منقوعةً بماء المطر المتواصل. هارموني ينسجُ مع صوتِ الأعشاشِ السرّي حُلّةً بالغةَ الرقة من الضباب، الذي صار ينتشر، ولا يحجبُ البصرَ عن رؤية ارتعاش البرد فيه، وهو يثيرُ حركةً في الهواء كحركة الوتر. ثمة موسيقى غير موسيقى الآلاتِ وموسيقى الحناجر. يقدرُ الشتاءُ وحده أن يعزفَها عبر رموزه. ويقدرُ الشاعرُ وحده أن يصغي لها. كنت أتأملُ سراً من أسرار الشتاء إذن!

ولكن هلْ من أحدٍ في لندن يُطلُّ إطلالتي، ويسمع ما أسمع؟ كان اللندني هذه الأيام خائبَ الظن كعادته، بهذا الشتاء الذي يشبه كلَّ شتاء، خائبَ الظن لأن الشتاءَ قطعَ الحدَّ الفاصلَ بين عامين، قديم وجديد، رمادياً على عادته. لم يكن أبيضَ كما يحلم أن يكون. فليس فيه من ندف الثلج التي تغطي العالم الشمالي كله. إنه يطمع في أن ينتقل إلى العام الجديد أبيضَ، مُبرّأً من الخطايا.

    كانت موسيقى الشتاء تتدفُّق من أعشاشِ الطيورِ المهجورة. الموسيقى الباردةُ التي لا يُشغلها تحوّلُ الزمنِ من رقمٍ إلى رقم، ومن لونٍ إلى لون. الموسيقى التي لا تقلُّ تأثيراً عن موسيقى الفصولِ الثلاثة، ولكنها تنفردُ في أنها تُعلن عن الجانب المغُفْل، المستور، المسكوتِ عنه، المُتحاشى، المرهوب من حياة الإنسان والطبيعةِ والكون.

back to top