جهاد النكاح وأكاذيب أخرى جهاد النظام السوري لتشويه الحقائق

تستقطب المسائل الجنسية الاهتمام، ويتوق تنظيم القاعدة إلى لفت الأنظار. لذلك يُعتبر الجمع بين الاثنين مع {جهاد النكاح} موضوعًا لا يُقاوم. يشير بعض التقارير إلى أن كثيراً من النساء يقدمن أنفسهن للمجاهدين، وفق إحدى الروايات الأخيرة المريعة التي تصلنا من سورية. فقد أصدر شيخ في المملكة العربية السعودية، حسبما يُقال، فتوى تبيح للمراهقات إراحة المقاتلين المكبوتين جنسيًّا.

في أواخر شهر سبتمبر، ظهرت روان قداح البالغة من العمر 16 سنة على شاشة التلفزيون السوري وقدّمت رواية مفصلة عن إرضائها جنسيًّا متمردًا متشددًا. وبعدما أعلن وزير الداخلية التونسي أن شابات تونسيات يسافرن إلى سورية لممارسة جهاد النكاح وإقامتهن علاقات مع 20 أو 30 أو حتى مئة رجل من الثوار، بدأت هذه المسألة تتصدر الأخبار في ألمانيا أيضًا. فقد أغدقت المواقع الإلكترونية لصحيفة Blid ومجلة Focus الواسعتي الانتشار على القراء في ألمانيا بمقالات عن هذه {الممارسة الغريبة} المزعومة.

في أعقاب مجزرة الغازات السامة في 21 أغسطس، شنَّ النظام في دمشق هجومًا عامًا شاملاً. ولكن وراء خطوط الدعاية الرسمية، نرى حملة أخرى: جهود سرية مدروسة بعناية غايتها نشر الشك والحيرة وتحويل الانتباه عن جرائم الحكومة السورية بحد ذاتها. فعلى غرار كثير من الأخبار الكاذبة، تهدف روايات {جهاد النكاح} إلى إقناع المؤيدين في الداخل والمنتقدين في الخارج بفساد الثوار المستشري وانحلالهم.

لم يعتمد أي قائد في المنطقة (لا صدام حسين في العراق ولا معمر القذافي في ليبيا) إلى هذا الحد على الدعاية بقدر الأسد. فيصوغ فريقه للعلاقات العامة ووسائل الإعلام الحكومية دفقًا متواصلاً من الأخبار المفبركة جزئيًّا أو كليًّا عن أعمال مريعة تُرتكب ضد المسيحيين، بروز تنظيم القاعدة، وزعزعة استقرار كامل المنطقة قريبًا. وتتناقل هذه القصص محطات البث الروسية والإيرانية، فضلاً عن الشبكات المسيحية، وينتهي بها المطاف إلى وسائل الإعلام الغربية.

لعل المثال الأبرز لذلك تلك الروايات عن الجنس الجماعي مع الإرهابيين: تنتمي تلك المراهقة التي قُدّمت على شاشة التلفزيون الحكومي إلى عائلة معارضة بارزة في درعا. فعندما أخفق النظام في إلقاء القبض على والدها، خطفتها القوى الأمنية وهي عائدة من المدرسة إلى المنزل في شهر نوفمبر عام 2012. وخلال البرنامج ذاته، اعترفت امرأة أخرى أنها شاركت في جنس جماعي مع أعضاء من جبهة النصرة المتشددة. لكن عائلتها تؤكد أنها اعتُقلت في جامعة دمشق خلال تظاهرها ضد الأسد. ولا تزال كلتا الشابتين مفقودتين. تذكر عائلتاهما أنهما أُرغمتا على الإدلاء بتلك التصريحات على شاشة التلفزيون، وأن ادعاء ممارسة {جهاد النكاح} كذبة.

علاوة على ذلك، اتصلت وسائل إعلام عربية بامرأة قيل إنها شاركت في {جهاد النكاح}، إلا أنها أنكرت كل هذه الأخبار، مؤكدةً: {هذه أكاذيب}. أقرت أنها سافرت إلى سورية حيث عملت كممرضة. وذكرت أنها متزوجة، وأنها هربت إلى الأردن.

تحاول مجموعتان مدافعتان عن حقوق الإنسان التأكد من روايات {جهاد النكاح} هذه، إلا أنهما أخفقتا حتى اليوم. ويبدو أن وزير الداخلية التونسي يملك دوافع أخرى لاستغلاله هذه الشائعة: غادر مئات الإسلاميين بلده وسافروا إلى سورية، وهو يحاول على ما يبدو الحد من هذه الموجة بتشويه صورة هؤلاء المقاتلين. علاوة على ذلك، ينكر الشيخ محمد العريفي، الرجل الذي يُقال إنه أصدر هذه الفتوى، أن يكون له أي دخل بها. ويضيف: {ما من إنسان عاقل يقبل بأمر مماثل}.

نشر الأكاذيب

من الصعب، أو حتى المستحيل أحيانًا، التأكد من الروايات المريعة التي يتناقلها كثيرون عن الحرب الأهلية في سورية. ويصح ذلك خصوصًا عندما تُنشر بطريقة غير مباشرة، كما هي الحال مع معظم التقارير عن اضطهاد المسيحيين.

على سبيل المثال، أصدرت وكالة الأنباء الكاثوليكية الألمانية KNA في السادس والعشرين من سبتمبر تقريرًا استشهدت فيه بأخبار من وكالة أنباء الفاتيكان {فيدس. فذكرت أن باحثين قانونيين إسلاميين في معقل المعارضة في دوما قرب دمشق دعوا إلى {مصادرة أملاك غير المسلمين}. وتذكر فيدس أنها تملك نسخة عن وثيقة وقعها 36 رجل دين مسلم. قد تبدو هذه الرواية جدية في الظاهر. ولكن اتضح أنها تستند إلى تزوير: نص ملفّق ذيل بتواقيع حقيقية. فقد أُخذت هذه التواقيع من بيان صدر عام 2011 يدعو إلى الإعفاء عن المدنيين خلال القتال. ولكن في مناسبات عدة، قدمت فيدس الدعاية المفبركة التي أطلقتها مؤسسات تابعة للنظام، مثل الحقيقة السورية، على أنها حقيقة مثبتة.

تشمل الأخبار المفبركة خرافة قطع رأس أسقف، رواية أخرى نشرها الأسد خلال مقابلة مع {شبيغل}. لكن الحقائق تؤكد أن مجاهدًا من داغستان قتل ثلاثة رجال بهذه الطريقة، إلا أنهم لم يكونوا مسيحيين. ولكن بعدما حازت هذه الشائعة التي نشرتها ماكينة الأسد الإعلامية على موافقة وكالة أنباء الفاتيكان الرسمية، صارت وسائل الإعلام حول العالم تتناقلها، معتبرة إياها وقائع مثبتة.

شوهت الحقائق بطريقة مماثلة حين ظهرت صورة لامرأة مربوطة إلى عمود في حلب بين أشرطة فيديو موقع LiveLeak نحو منتصف شهر سبتمبر. ادعى هذا الموقع الإلكتروني أن المرأة مسيحية من حلب خطفها ثوار من تنظيم القاعدة. صحيح أن هذه الصورة التُقطت في حلب، إلا أنها تعود إلى حقبة كان فيها جنود الأسد لا يزالون يسيطرون على المدينة بأكملها. وقد أظهر شريط فيديو نُشر على موقع YouTube في 12 يونيو 2012 أعضاء الميليشيات التابعة للنظام وهم يصيحون بتلك المرأة.

حبك النظام أيضًا أسطورة تدمير قرية معلولة المسيحية. ففي مطلع شهر سبتمبر، هاجم ثوار ينتمون إلى ثلاث مجموعات، بما فيها جبهة النصرة، موقعين عسكريين في ضواحي البلد يقيمهما أعضاء من شبيحة الأسد المحليين، ثم عاودوا الانسحاب. لكن نسخة النظام، التي تحوّلت إلى خبر نشرته الأسوشيتد برس، جاءت كما يلي: نهب إرهابيون أجانب وحرقوا الكنائس، حتى إنهم هددوا بقطع رؤوس المسيحيين الذين يرفضون اعتناق الإسلام.

لكن هذه الرواية ناقضت تقارير راهبات دير القديسة تقلا في معلولة وأبرشية الروم الأرثوذكس في إنطاكيا. فقد أكّدت التقارير أن المنطقة لم تشهد أي تبدّل، وألا أحد تعرّض للتهديد بسبب إيمانه. وأوضح أحد مراسلي الشبكة الإخبارية الفضائية Russia Today عن غير عمد هذا الارتباك. فخلال مرافقته الجيش السوري، صور الهجوم بالدبابات على معلولة، الذي تعرَّض خلاله الدير المحلي للقصف.  

يعكس تحريف الحقائق المتواصل هذا سياسة متعمَّدة. وصار التلاعب بالحقيقة أكثر سهولة اليوم مع تحوّل سورية إلى مسرح حرب تعمه الفوضى والحيرة. يحاول معظم المنشورات الإخبارية تفادي بذل الجهد ومواجهة المخاطر بغية التحقق من الأخبار على الأرض. نتيجة لذلك، تُمزج الأحداث الحقيقية، مثل إحراق المجاهدين كنيسة في بلدة الرقة في شمال سورية، مع فظائع ملفقة صُممت لاستمالة الرأي العام العالمي.

حتى التضاربات الواضحة تُنشر أحيانًا من دون التشكيك في صحتها، خصوصًا أن الأدلة التي تثبت العكس قلما تتوافر. على سبيل المثال، عندما أفادت وسائل الإعلام التابعة للدولة أن الإمام الشهير محمد البوطي، وهو أحد داعمي الأسد، قُتل في تفجير انتحاري في مسجده في قلب دمشق في الحادي والعشرين من مارس، أنكرت مجموعات الثوار كافة أن يكون لها أي دخل في الهجوم.

لا شك في أن إنكارها قد لا تكون له أي قيمة. ولكن حتى المشاهد العادي يستطيع أن يميز أن الصور لا تُظهر أي إشارات إلى وقوع انفجار: فلم تتعرض الثريات والمراوح والسجاد لأي أذى. على العكس، ظهرت في الجدار الرخامي ثقوب رصاصات. كذلك كشفت برك الدماء المواضع التي تمددت فيها الجثث. كذلك كان كثير من الضحايا ينتعلون أحذيتهم، وهذا غريب بالنسبة إلى مسلمين في مسجد. أضف إلى ذلك غياب الشهود. ولا شك في أن ذلك كله يعزز الشكوك في أن الضحايا أرغموا على دخول المبنى حيث قُتلوا، ما شكّل خلفية لهجوم لم يحدث.

إلقاء اللوم

بعد اعتداء الغازات السامة في شهر أغسطس، أخفقت محاولات التغطية الدعائية. فبعدما انهالت على النظام موجة عالمية من الاستنكار والغضب، فشل في تبرير هذا الوضع. أولاً، أنكر الأسد حدوث أي اعتداء، ثم أظهر التلفزيون الحكومي صوراً لمخبأ مزعوم تابع للثوار يضم برميلاً يحمل بكل وضوح عبارة {صُنع في السعودية}. فادعى التقرير أن البرميل يحتوي على غاز سارين أرسلته المملكة العربية السعودية إلى {إرهابيين} قتلوا أنفسهم بالسم عن غير قصد.

كان مصدر الخبر موقع إخباري إلكتروني مغمور يُدعى Mint Press مقره في ولاية مينيسوتا شمال الولايات المتحدة. لكن أحد الكاتبين أنكر لاحقًا أن يكون له أي دخل في البحث. أما الكاتب الآخر، وهو شاب أردني يكتب بأسماء مستعارة عادة، فتجاهل الأسئلة كافة الموجهة إليه، مكتفيًا بالقول إنه يتابع دروسه راهنًا في إيران. ولكن في تعليق على مقال نشرته الصحيفة البريطانية Daily Mail على شبكة الإنترنت، قدّم التفصيل التالي الذي أغفل عن ذكره في Mint Press: {أتى بعض الرجال إلى دمشق قادمين من روسيا، فنشأت بيننا علاقة صداقة. أخبروني أنهم يملكون أدلة تثبت أن الثوار استخدموا الأسلحة} الكيماوية. ولكن ما هي إلا أيام قليلة حتى استشهد وزير الخارجية الروسي بتقرير Mint Press، معتبرًا إياه دليلاً على براءة الأسد.

لكن بثينة شعبان، مستشارة الأسد الإعلامية، قدمت إلى شبكة البث البريطانية Sky News تبريرًا مختلفًا تمامًا لاعتداء الغاز المزعوم الذي نفذه الثوار: قالت إن الإرهابيين خطفوا نحو 300 ولد علوي من اللاذقية، نقلوهم إلى دمشق، وقتلوهم كي يقدموهم للعالم كضحايا.

كذلك طُرح أخيرًا خط دفاع جديد لا يعتمد على الأسلحة الكيماوية ولا يدعي أن الثوار قتلوا أنفسهم: ففي مقابلة مع {شبيغل}، ذكر الأسد أن السارين {غاز مطبخ} لأن {من الممكن تصنيعه في أي مكان}. لكن هذا يتناقض مع تقرير الأمم المتحدة، الذي أشار إلى أن القوات الحكومية تستطيع وحدها إطلاق صواريخ تحمل غاز السارين من قاعدة عسكرية. صحيح أن الأسد يهوى تغطية جرائمه باستخدام إعصار إعلامي تعززه الأزمة الراهنة، إلا أنه يفضل التحدث مباشرة إلى الصحافة وسرد جانبه من الرواية. ويشمل ذلك تقديمه نظامه وكأنه السد الأخير في وجه الإرهاب العالمي، مع أنه طلب من عملائه تنفيذ الاعتداءات ذاتها التي يحذر العالم منها وينسبها إلى خصومه. على سبيل المثال، اتهمت الشرطة في تركيا ولبنان الاستخبارات السورية بضلوعها في أفظع الاعتداءات التي ارتكبت منذ سنوات. فبعد وقوع تفجيرين في طرابلس ذهب ضحيتهما 47 شخصًا في 23 أغسطس، أصدرت محكمة لبنانية مذكرة توقيف بحق سوريين خطّطا لأعمال إرهابية.

* كريستوف رويتر | Christoph Reuter