زرت الولايات المتحدة الأميركية خمس مرات خلال العشرين سنة الأخيرة، لكنني شاهدتها مئات المرات من خلال أفلام هوليوود وتقنياتها السينمائية المبدعة. وفي مجال المقارنة بين الواقع المعيش والإبهار السينمائي يمكن القول إن فن السينما هو الإنجاز الأعظم للأميركيين، لكنه الأكثر إرباكاً في مجال التوثيق لحضارتهم وواقعهم الحياتي.
في الأفلام الأميركية هناك رسائل فاقعة الحضور تتلخص عادة في محورين، إما التفوق المطلق في جل مناحي الحياة، أو الغرق في الجريمة والمخدرات والعنصرية والرعب الفنتازي! وكلاهما يبهرك ويهيئ خيالك لتصورات وأحكام تكاد تظنها وقائع دامغة.فالصورة النمطية للأميركي الذي تراه على الشاشة غالباً ما يبدو وسيماً طويل القامة عريض المنكبين، وتجده عصرياً في نمط حياته وسيارته وأدوات مكتبه وملابسه الرياضية، وهو عادة ما يتناول الكورن فليكس والقهوة في الصباح، ويقبل زوجته أو يداعب كلبه قبل المغادرة للعمل. لكنك حين تبحث عن هذا النموذج النمطي في رجل الشارع، وأنت تسوح في أهم المدن الأميركية تستشعر فداحة الكذبة وأنت ترى سحنات أميركا اللاتينية وشرق آسيا والهنود والعرب والأفروأميركان، وترى كيف أن الأصول الأوروبية لا تشكل غير نسب متدنية في تلك الجموع التي تعبرك في الشارع والمنتزه والمطعم والبنك والمركز التجاري وما شئت من مناشط الحياة اليومية. وتكاد تجزم بأن جلهم ليس لديه كلب مدلل أو زوجة تنتظر قبلة الوداع!وحين نأتي إلى أفلام الجريمة والمخدرات والعنف، فلن يكون أبطالها غير الأفروأميركان من السود، ولن تكون ساحاتها إلا مناطقهم الفقيرة وحواريهم المشبوهة المملوءة برسوم الجرافيتي البذيئة والفجة. هذا النموذج للأميركي الأسود أصبح سمة دامغة وصورة جاهزة في ذهن كل من يزور أميركا، حتى بتنا نتلفت يمنة ويسرة كلما واجهنا أحدهم في أي شارع ومنعطف! لكننا نكتشف لاحقاً أنهم (خوش ناس) وأنهم مواطنون صالحون وادعون، وأن ما رسمته السينما عنهم هو لون من الظلم والعنصرية الفجة التي تضاف إلى تاريخ طويل من المظالم والقهر.أما إذا كان الفيلم حول القوة العسكرية فسوف تحبس أنفاسك وأنت ترى أحدث أسلحة الدمار الشامل والقوى الخرافية في التخطيط والتكتيك والكرّ والفرّ، فضلاً عن تصوير الإرادة الخارقة المجندة لإنقاذ العالم وتخليصه من الأشرار والدكتاتورية والتخلف. وعادة ما يبدو الطرف الآخر في هذه المعادلة سواءً اليابانيين أو الألمان أو العراقيين أو الأفغان ليسوا سوى شعوب غبية أو متخلفة أو تعيش على حافة الفقر والجهل. وتلعب الصورة دوراً بارزاً في إظهار أولئك (المنهزمين!) في ملابس رثة وسحنات بائسة وحوارات غبية وفجة وخلفيات بيئية مدقعة في الفقر والتخلف. هذا الموقف العدائي المترفع إزاء الشعوب الأخرى، والذي لا نراه إلا في الأفلام، ربما ساهم في خلق ذلك التحفظ المشوب بالنفور من الثقافة الأميركية، وتصديرها لهذا النموذج غير الإنساني عبر منتجها السينمائي. وهنا يثور التساؤل في هذا السياق عن مدى مصداقية هذا المنتج السينمائي وقربه من حقيقة الشخصية الأميركية التي يمثلها رجل الشارع، والذي عادة ما يبدو منشغلاً بهموم عيشه وإيجار شقته وضريبة دخله، أكثر بكثير من انشغاله بما يدور في العراق أو أفغانستان أو غيرهما من الشعوب المنكوبة التي لا يعرف أين تقع على خريطة العالم!لقد زرت في سنوات سياحتي مدناً أميركية عامرة، دنفر ولوس أنجلس وسان دييغو ولاس فيغاس وفيلادلفيا ونيويورك، ورأيت الواقع في بساطته، والإنسان في اعتياديته، وإيقاع الحياة يسير كما في بقاع العالم الأخرى، ولم أرَ فيها تهاويل السينما ومبالغاتها و(أكشناتها)! وكان الواقع أصدق وأكثر ألفة وإقناعاً.أعتقد أن مضمون الثقافة السينمائية الأميركية ورسائلها المبثوثة عبر منتجها السينمائي بحاجة إلى الكثير من التقييم والمراجعة، وإلى محاولة تجاوز ما هو وهمي وفنتازي نحو ما هو حقيقي وواقعي في الشخصية الأميركية. وإن كان تاريخ الشعوب في العصور السالفة يكتب بالأقلام والأوراق فإنه في عصرنا هذا يكتب بالصورة والفيلم، وهما أكثر تأثيراً وأوسع انتشاراً وألصق بالذهن والذاكرة.
توابل - ثقافات
...وأيضاً أميركا... أميركا
22-10-2013