الخفض التدريجي وظله

نشر في 03-10-2013
آخر تحديث 03-10-2013 | 00:01
المشكلة هي أن الأسواق المالية لا تصدق ببساطة زعم البنوك المركزية بأن رغبتها الحالية في خفض التيسير الكمي تدريجياً غير مرتبطة بأي رغبة في زيادة أسعار الفائدة القصيرة الأجل في المستقبل. ويعتقد المستثمرون أن نفس محافظي البنوك المركزية الذين يسعون إلى قطع التيسير الكمي سيتلمسون الأعذار أيضاً في المستقبل لإلغاء توجيهاتهم الجريئة بشأن تكاليف الاقتراض.
 بروجيكت سنديكيت  تعهدت البنوك المركزية في منطقة شمال الأطلسي بعدم زيادة أسعار فائدتها الاسمية القصيرة الأجل إلى أن تُظهِر الاقتصادات التي تخدمها أنها تعافت إلى حد كبير، حتى الآن لم يحدث ذلك، بل إن هذه الاقتصادات لا تزال تعاني في مواجهة الرياح المالية العكسية المتمثلة بالتقشف؛ وتحت وطأة حالة من عدم اليقين حول ما إذا كان الحزب الجمهوري في أميركا قد يقوض في واقع الأمر "إيمان الولايات المتحدة وكامل رصيدها" من خلال السماح للحكومة الفدرالية بالتخلف عن سداد ديونها؛ ومن جراء نظام تمويل الإسكان المعطل؛ فضلاً عن عدم اليقين حول كيفية تخصيص أعباء التكيف البنيوي.

وفي ظل كل هذه القضايا غير المحلولة فيبدو من السابق لأوانه أن تبدأ البنوك المركزية في شمال الأطلسي حتى مجرد الحديث عن إنهاء التحفيز النقدي، ولكنها رغم هذا تفعل ذلك على وجه التحديد. وهي لا تخبرنا بأنها سوف تتراجع عن وعدها بعدم زيادة أسعار الفائدة قبل الأوان، ولكنها تقول إن قدرتها على تحمل الاستمرار في تضخيم موازناتها العمومية من خلال شراء سندات طويلة الأجل في مقابل أموال نقدية أصبحت محدودة للغاية، وقد يكون "الخفض التدريجي" المزعوم لمثل هذه المشتريات- رغم تأجيله من قِبَل مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي في الأسبوع الماضي- احتمالاً ليس ببعيد.

والمشكلة هي أن الأسواق المالية لا تصدق ببساطة زعم البنوك المركزية بأن رغبتها الحالية في خفض التيسير الكمي تدريجياً غير مرتبطة بأي رغبة في زيادة أسعار الفائدة القصيرة الأجل في المستقبل. ويعتقد المستثمرون لأسباب وجيهة أن نفس محافظي البنوك المركزية الذين يتلمسون الأعذار الآن لقطع التيسير الكمي سوف يتلمسون الأعذار أيضاً في المستقبل لإلغاء توجيهاتهم الجريئة بشأن تكاليف الاقتراض.

وسوف يظل هذا هو اعتقاد المستثمرين ما لم يعرض عليهم محافظو البنوك المركزية في شمال الأطلسي أسباباً مقنعة تجعلهم يصدقون أن المزيد من التوسع في الموازنات العمومية للبنوك المركزية في شمال الأطلسي ينطوي على مخاطر كبيرة حقاً.

ولكن كيف نفهم تزايد المخاطر عندما اشترى بنك الاحتياطي الفدرالي ما قيمته 85 مليار دولار أخرى من الأوراق المالية الطويلة الأجل في سبتمبر؟

يزعم البعض أن التيسير الكمي يزيد من المخاطر لأن الممولين يستخدمون هذه الأموال النقدية الإضافية لاستثمارها في الخارج، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع قيمة العملات في بلدان المقصد. ثم يعمل محافظو البنوك المركزية في هذه البلدان على توسيع المعروض من الأموال المحلية وخفض أسعار الفائدة عليها، فتعاني اقتصاداتها فرط النشاط، ولكن كيف نعتبر هذه المخاطر مشكلة تخص بنك الاحتياط الفدرالي؟

يقول آخرون إن المخاطر تتزايد لأنه عندما يشتري بنك الاحتياط الفدرالي سندات الخزانة، يستجيب النظام المالي بتوسيع الائتمان والحفاظ على مراكز أكثر خطورة في الإجمال. وعندما تنخفض تكاليف تحمل المخاطر يتم تخصيص كمية أكبر من القدرة على تحمل المخاطر.

ولكن هذا يتجاهل حقيقة مفادها أن القدرة على تحمل المخاطر تنطوي على جانب الطلب فضلاً عن جانب العرض. ويعمل التيسير الكمي على تحييد المخاطر المرتبطة بمدة سندات الخزانة- حساسية أسعار السندات للتغيرات في أسعار الفائدة- ضمن البنوك المركزية التي ستحتفظ بالأوراق المالية حتى تاريخ استحقاقها. وعلى هذا فهل تعني المخاطر الأقل في الإجمال مخاطر أعلى في الإجمال؟

هذا غير منطقي، فمن هم الذين أصدروا كل السندات الخطرة واستبعدوا كل القروض الخطرة لزيادة الكم الإجمالي من المخاطر؟ إنهم ببساطة لا وجود لهم- ولو أنه أمر رائع لو كان لهم وجود، لأنهم كانوا سيأخذون المال ويحملون الناس على العمل على بناء الأصول التي كانوا يأملون أن تسمح لهم بسداد قروضهم بأرباح معقولة.

ولكن هناك آخرون يقولون إن المخاطر لا تتزايد بالنسبة إلى القطاع الخاص ككل بل بالنسبة إلى مؤسسات ذات أهمية نظامية شاملة اعتادت على الالتزامات القصيرة الأمد بأسعار فائدة منخفضة والأصول الطويلة الأجل بأسعار فائدة مرتفعة. وتعتمد هذه المؤسسات على قانون الأعداد الكبيرة الذي من المفترض أن يسمح لهم دوماً بالاحتفاظ بسنداتهم الطويلة الأجل إلى تاريخ استحقاقها، وجني أرباح بلا مجازفة من الفارق في أسعار الفائدة (على الأقل في غياب أي أزمة مالية، وفي هذا الحالة فإن هذه المؤسسات سوف تُنقَذ على أي حال).

ولكن أي المؤسسات تلك التي تخلق المخاطر النظامية؟ إذا كانت هي البنوك التجارية في الولايات المتحدة، فإن السياسة المناسبة تتلخص في إرسال مفتشي البنوك للتأكد من أنها لا تخوض مجازفات لا ضرورة لها بالودائع المؤمن عليها من الحكومة والتحضير لوضعها تحت الحراسة القضائية إذا لزم الأمر. وإذا كانت المشكلة في البنوك الأميركية العالمية وكان صناع السياسات في بنك الاحتياط الفدرالي الأميركي لا يثقون بقدرة قانون "دود-فرانك" للإصلاح المالي لعام 2010 على تمكين الحل السليم والحراسة، فإن السياسة المناسبة تتلخص في تسليط الضوء على أوجه القصور في قانون "دود-فرانك"، وليس إرسال إشارات "الخفض التدريجي" التي تؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وتقويض صلاحية البنك المتمثلة باستهداف تحقيق المستوى الأقصى من تشغيل العمالة.

يتعين على صناع السياسات في بنك الاحتياط الفدرالي الأميركي وغيره من البنوك المركزية في شمال الأطلسي، والذين يعتقدون أن المزيد من التوسع في التيسير الكمي يفرض مخاطر كبيرة، أن يفسروا لنا على وجه الدقة ما هي تلك المخاطر ولماذا نحتاج إلى اتقائها الآن. وإذا لم يحدث هذا- إذا ظلت المخاطر التي تفرض إنهاء التيسير الكمي مبهمة وغامضة- فإنهم لن يتمكنوا من مواجهة اعتقاد المستثمرين بأن الخفض التدريجي للتيسير الكمي اليوم يعني مساراً جديداً لأسعار الفائدة غداً.

* جايمس برادفورد ديلونغ | James Bradford DeLong، مساعد وزير الخزانة الأسبق في الولايات المتحدة، وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top