ديترويت... مدينة على هامش العالم الأول
كل من يستطيع الرحيل غادر ولم يبق سوى الفقراء والمرضى والمجرمين
فقدت مدينة ديترويت خلال الفترة من عام 1972 إلى عام 2007 نحو 80 في المئة من صناعاتها، وفي العقد الذي بدأ عام 2000 خسرت المدينة ربع سكانها، ولايزال العدد يتناقص، ولن يكون من السهل إيقاف التدهور.
فقدت مدينة ديترويت خلال الفترة من عام 1972 إلى عام 2007 نحو 80 في المئة من صناعاتها، وفي العقد الذي بدأ عام 2000 خسرت المدينة ربع سكانها، ولايزال العدد يتناقص، ولن يكون من السهل إيقاف التدهور.
قبيل تقديم طلب إفلاس ديترويت الأسبوع الماضي مباشرة، اقترح مدير الطوارئ في المدينة، كيفين أور، جولة في الباص تضم الدائنين والمطالبين والمستشارين ليطلعوا مباشرة على مدى الخراب الذي أصاب المدينة. قال المحامي الذي يمثل مجموعة من الدائنين، الذين ساهم عدم اهتمامهم بالجولة في إلغائها: "أراد أور أن تؤخذ صورة جماعية لجميع الشخصيات المتأنقة من وول ستريت وهم وقوف أمام الأبنية المهجورة. كان الهدف هو تصويرنا على أننا الأشرار". فالمدينة لا تعاني نقصا في الأبنية الفارغة المغلقة نوافذها بألواح خشبية، أو المصانع الصدئة، لتشكل الخلفية الدراماتيكية لرسالة أور، لكن محنة ديترويت تمتد إلى أبعد كثيرا من ميزانيتها المحطمة. إحدى الصحف المحلية تتساءل في عنوان بالبنط العريض: ما العمل مع بنايات ديترويت المهجورة؟
وقف السقوط وحتى لو تمكن أور من إعادة هيكلة الديون من خلال التفاوض على قصقصة أجزاء كبيرة من حقوق حملة الأسهم ورواتب المتقاعدين، فسيبقى يواجه تحدياً أصعب من ذلك. إذ سيكون من الأصعب حتى أكثر من ذلك خلق قوة دفع للأعلى بدلاً من وقف السقوط إلى الأسفل. لقد فقدت مدينة ديترويت خلال الفترة من عام 1972 إلى عام 2007 نحو 80 في المئة من صناعاتها، في أوقات صارعت فيها صناعة السيارات للبقاء في وجه منافسة عالمية. وفي العقد الذي بدأ عام 2000 خسرت المدينة ربع سكانها، الذين استقر عددهم الآن عند 685 ألف نسمة، ولايزال العدد يتناقص. ونحو الثلث فقط من سكانها الباقين لا يدفعون أي نوع من الضرائب. ولن يكون من السهل إيقاف التدهور، فضلا عن عكس الاتجاه وجلب عدد كاف من الناس والأعمال ثانية، وإعادة بناء قاعدة الضرائب المحطمة. ولا تستطيع ديترويت تحمل كلفة إبقاء الشوارع مضاءة، كما يمكن أن تأخذ خدمات الطوارئ ساعة للاستجابة لطلب إسعاف شخص مصاب بنوبة قلبية، وتساقط الثلج الثقيل يمكن أن يحجز سكان المناطق الفقيرة كما لو أنهم مقيمون في أماكن ريفية نائية، بسبب عدم القدرة على فتح طرقها. وبدأت المدينة بقبول التبرعات لتمويل عمليات التفتيش على سلامة سلالم الحريق بعد أن طلب رئيس المطافئ من العاملين عدم استخدامها إلا في الحالات التي تشكل خطراً على الحياة، لأن السلطات لا تستطيع تحمل كلفة إجراء فحوصات لها. قبول التبرعات كما أجبرت ديترويت أيضاً على قبول تبرعات خيرية لرفع طاقة أسطول سيارات خدمة الطوارىء الطبية. ويبدو بشكل مؤكد أن تؤدي إجراءات الإفلاس إلى تقليص معاشات التقاعد لموظفي المدينة والحد من منافع العناية الصحية، ما يؤدي إلى مزيد من استنزاف الثقة والقوة الشرائية لدى الناس. ويتوقف رجل المطافئ ديفيد ماكليود (52 عاماً) بضع لحظات عن المشاركة في مظاهرة عند زاوية الشارع احتجاجاً على تقليص معاشه التقاعدي، ويقول إنه غادر المدينة بأسرع ما يمكن منذ ما يزيد على عقد من الزمان. ويضيف: "جرى اقتحام بيتي، ثم سيارتي، ووجدت في يوم من الأيام بعض المتشردين فيها. كل من يستطيع المغادرة غادر، ولم يبق من الناس سوى الفقراء والمرضى والمجرمين". ويقول أور إن حجم ديون ديترويت البالغ 18.6 مليار دولار، أو ربما 20 مليارا، هو من بعض النواحي حالة خاصة. لكن ورطتها تلقي الضوء على مشاكل مماثلة ابتليت بها مدن أميركية أخرى وإن كانت أقل حدة، من بينها شيكاغو وكليفلاند وفيلادلفيا. مدن نامية ووجد بحث أجراه فرع الاحتياطي الفدرالي في كليفلاند في العام الماضي، أن المدن النامية تتميز بوجود مناطق عمرانية كثيفة في مراكزها، بينما تقل هذه المراكز في المدن المتقلصة، الأمر الذي يسبب تداعيات وعواقب تعمل على تقليل الإنتاجية فيها. وهناك مساحات من النمو في ديترويت، والمساكن تباع في وسط المدينة الذي أعيدت حيويته. كما أعيد إحياء المناطق الواقعة في وسط المدينة بفضل الجهود التي بذلها الناشطون في تحالف بدأ من الصفر والشركات الخاصة. وبعض الجهود التي بذلها زعماء الولاية والمدينة لبث الحياة في المدينة، مثل تحويل مبلغ 248 مليون دولار من عائدات الضرائب للمساعدة في تمويل ستاد هوكي للفريق المحلي، ريد وينغز، كان نصيبها السخرية. وقال أحد المعلقين على الخطة بعد أن تمت الموافقة عليها هذا الأسبوع: "دعهم يأكلوا أقراص الهوكي السوداء". ومع ذلك أعطت ديترويت، بموافقتها على المساهمة بمبلغ 650 مليون دولار في مشروع للتطوير يشتمل على مناطق سكنية ومحال للتجزئة وبنايات مكتبية حول الاستاد الرياضي، إشارة على أن الإفلاس يدور حول أمور أكثر من مسح ديون المدينة. ويقول ريك سنايدر، حاكم ولاية ميشيغان، الذي وافق على تقديم مساعدة من الولاية في بناء الاستاد: "هذا جزء من الاستثمار في مستقبل ديترويت". مركز المدينة ويتفق قادة بلدية ديترويت المشاركون في المشروع وخبراء التخطيط العمراني والمحللون الماليون على أن التعامل مع محنة العمران يجب أن تتضمن التحرك في كل مرة من منطقة إلى أخرى، ابتداءً من المركز الذي يجب أن يحظى بالاهتمام ليس فقط لأجل جلب المال، بل أيضاً لجلب الإحساس بالحيوية. ويشار عادة إلى مدينة بيتسبيرغ، الموطن التاريخي لصناعة الفولاذ في الولايات المتحدة، على أنها الأنموذج في إعادة التجديد الذي يجب أن تحتذي به ديترويت. ووفقاً لبروس كاتز، من مؤسسة بروكينغز، فان 25 في المئة من وظائف بيتسبيرغ توجد في منطقة مساحتها ثلاثة أميال داخل منطقة الأعمال المركزية، وهذا يزيد قليلاً على ضعف المعدل في أكبر المدن الأميركية، بينما الرقم في ديترويت 7 في المئة. ويقول كاتز: "المركز هو نقطة الارتكاز الأساسية للبدء بإعادة الحيوية. ديتروت حالة متطرفة، ومستوى السكان ولا مركزية الوظائف مسألة أكثر أهمية بكثير مما هي في أجزاء أخرى من الولايات المتحدة". وكلما اتسعت مساحة المدينة، زادت مساحة التردي داخلها وبين الأحياء السكنية فيها. ويؤدي هذا الحال إلى زيادة صعوبة وكلفة خدمات الطوارئ اللازمة للوفاء بواجباتها. مساحات واسعة وتتكون ديترويت من أراض قفراء واسعة مساحتها 139 ميلاً مربعاً، تملؤها مجموعات سكنية على شكل بلوكات مكونة من بيوت وشقق فارغة نزعت حتى القطع المعدنية من نوافذها، ومصانع توقف هدير مكائنها منذ عقود. ويقول جاك دورر، محلل المالية العامة في وكالة التصنيف موديز إن حقيقة أنه يجب على الخدمات أن تغطي كل هذه المساحة عملية مكلفة جداً. إذا كان لديك حالة من التردي العمراني، فأنت تواجه مساحات واسعة تعاني عقاراتها من قلة قيمتها. وبذلك يغدو من الصعب إغراء الناس على الانتقال إلى هناك وأن تأخذ منهم ضرائب تكفي لتغطية نفقاتهم. ووفقا لسنايدر، فان منطقة الأعمال المركزية تزدهر، وستواصل الازدهار، وهي استثمار جيد. لكن يبقى السؤال المهم: ماذا نفعل بالمساحة الأخرى الباقية البالغة 130 ميلاً مربعاً من المدينة؟. ويستند اقتراح أور لإعادة الهيكلة المالية للمدينة على تخصيص 1.2 مليار دولار لمدة عشر سنوات، للتعامل مع الأحوال المتردية للمدينة، إضافة إلى الموارد الفدرالية التي سيتم استخدامها لهذا الغرض. وحصلت ميشيغان لتوها على 100 مليون دولار من صندوق غير رسمي مخصص لغايات إغاثة الأصول المتعثرة، وهو الصندوق نفسه الذي ساعد في دعم وول ستريت عام 2008، وسيتم توجيه نصف هذ المبلغ إلى مدينة ديترويت. أموال فدرالية أما الأموال الفدرالية فستستخدم من أجل هدم 78 ألف مبنى وإزالة الركام والحطام المتجمع من عمليات الإزالة. وبعيداً عن برنامج إغاثة الأصول المتعثرة، سيكون لدى المدينة القليل لتظهره للحصول على أي هبات من واشنطن. فقد تلقى جزء الطريق السريع المار من المدينة، الذي يصل ما بين الولايات، مبلغاً صغيراً من برنامج التحفيز البالغ 787 مليار دولار عام 2009. واستخدمت الحكومات المحلية أغلب أموال التحفيز في المحافظة على جداول الرواتب، بدلاً من تخصيصها لمشاريع البنية التحتية التي يمكن أن تكون قد خلفت مشاريع غير مكتملة في ديترويت ومدن أخرى تعاني صعوبات مالية. وتعد كندا المجاورة أكثر كرماً لأنها تدفع مقدماً جميع الأموال اللازمة لبناء جسر يصل بين البلدين كلفته ستة مليارات دولار. وسيصبح هذه الجسر بعد إتمامه شرياناً حيوياً يربط سلسة توريد السيارات عبر النهر الذي يمثل الحدود بين الجارتين. وفوق كل هذا، ما يزيد من تعقيد محنة المدينة المادية هو الفوضى السياسية. مثلا، كوامي كيلباتريك، العمدة السابق، الذي يقبع في السجن بانتظار الحكم عليه بعد أن أدين بالتآمر مع موظفين آخرين في المدينة ومع والده لتزوير عقود المدينة. لكن آلة الديمقراطيين المهيمنة التي أنتجت ورفعت من شأن كيلباتريك لاتزال بمنأى عن الخزي الناتج عن سقوطه. منصب العمدة وحين برز مايك دوجان، وهو محام له خبرة في الأعمال والحكومة، ليكون المرشح الأبرز لمنصب العمدة هذه السنة، أجبره أعضاء من آلة الحزب على الخروج عبر صندوق الاقتراع في الانتخابات الديمقراطية الأولية بسبب نقطة فنية. وبعد أن قرر الترشح كمرشح لا يظهر اسمه في القوائم وإنما يجب أن يقوم الناخب بنفسه بكتابة الاسم، ظهر مرشح منافس هذا الأسبوع بالاسم نفسه تقريباً، في مسعى لبذر بذور الحيرة. وقدم مايك دوجيون، وهو حلاق في المدينة، طلباً يوم الخميس للتسجيل مرشحا لا يظهر اسمه في القوائم. ووفقاً لتقارير في الصحف المحلية لم يسبق لدوجيون أن انتخَب من قبل. وهو يشتكي على صفحته في "فيسبوك" من أنه لا يستطيع اجتذاب النساء، إلا إذا عرض عليهن الكحول والماريغوانا. لكن الفساد المحلي وحده لا يفسر محنة ديترويت. ويتساءل توم سوجرو، من جامعة بنسلفانيا: "صحيح أن ديترويت كانت تدار بصورة سيئة، لكن هل هي أسوأ من شيكاغو أو فيلادلفيا في هذا الخصوص؟ لا أظن ذلك". (فايننشال تايمز)