لا يمكن بالطبع إدانة تيار الإسلام السياسي، أو حتى "حركة النهضة"، في تونس باغتيال المعارض البارز شكري بلعيد، قبل أن تكون هناك تحقيقات موثقة، أو أحكام قضائية، أو أدلة قاطعة، لكن سيمكن بكل تأكيد اتهام ذلك التيار بالمساهمة الأهم في إنتاج أجواء إرهابية تقصي المعارضين، وتشيطنهم، وتكفرهم، وتمهد لاستباحة دمائهم.

Ad

من يتابع السجال الدائر بين جماعات الإسلام السياسي التونسية، سواء تلك التي وصلت إلى الحكم، أو تلك المتحالفة معها، وبين التيارات المدنية المعارضة بأطيافها المختلفة، يعرف أن توقع قتل المعارضين كان مسألة سهلة يمكن استخلاصها بسهولة من تحليل مضمون الخطاب الإسلاموي الحاد والتكفيري والمؤجج لعواطف الأتباع والمناصرين.

الأمر نفسه يجري استنساخه في مصر بطريقة غريبة؛ فمع الزيادة المطردة في أخطاء مؤسسة الحكم، والتخبط المذهل في القرارات، والتراجع المزري في الاقتصاد، واستفحال الأزمة السياسية والاجتماعية، وفقدان السيطرة على الشارع، وتراجع هيبة الدولة، يسخر الإسلاميون كل قدراتهم ومنابرهم، وربما أوقاتهم، للهجوم على المعارضين، وتحقيرهم، وشيطنتهم.

لا يكتفي الإسلاميون المصريون في محاولاتهم لشيطنة المعارضين باستخدام المنابر الإعلامية المتوافرة لهم في وسائط الإعلام التقليدية والجديدة، ولا في القرارات التي يتخذها النظام، الذي يسيطر على السلطات التنفيذية والتشريعية وينتهك السلطة القضائية انتهاكاً منهجياً، ولكنه يسخر كذلك منابر المساجد لشن معاركه على خصومه، عبر استخدام الفتاوى التي تحض على طاعة الحاكم، والامتثال له، وتحرم الخروج عليه، بل تقر بضرورة معاقبة هؤلاء الذين يشقون "عصا الطاعة".

خلال الأسبوع الماضي، حدث تطور مهم في هذا الصدد، فقد أفتى أحد أنصار الرئيس مرسي، وهو أستاذ جامعي، وداعية سلفي، يظهر في برنامج تلفزيوني على إحدى القنوات الدينية بانتظام، بـ"إهدار دم" أعضاء "جبهة الإنقاذ" المعارضة.

يتسق ما جاء به هذا الداعية السلفي مع أجواء الشحن المتصاعدة في الخطاب الإسلاموي تجاه المعارضين وحركات الاحتجاج المتتالية في الشارع المصري الآن، كما يلقى قبولاً من بعض منسوبي التيار الإسلامي ذوي النزعات "الجهادية"، وينسجم مع ما يقوله عدد كبير من خطباء المساجد بـ "عدم جواز الخروج على الحاكم"، ويذكرنا بفتاوى شبيهة صدرت في تونس، ومهدت لقتل بلعيد.

من أكثر الأحداث مأساوية في تاريخ ثورة يناير قيام الآلاف من أنصار الرئيس مرسي وجماعة "الإخوان المسلمين" بحصار المحكمة الدستورية العليا في مصر، في شهر ديسمبر الماضي، لمنع المحكمة من إصدار حكمين قضائيين غاية في الأهمية والخطورة؛ أولهما يتعلق بدستورية انتخابات مجلس الشورى (غرفة التشريع الثانية، التي يهيمن عليها الإسلاميون، والتي باتت مسؤولة عن التشريع بالكامل بعد حل الغرفة الأولى بحكم قضائي)، وثانيهما يتصل بدستورية تشكيل "الجمعية التأسيسية"، التي أقرت الدستور بطريقة هزلية، في غيبة كل التيارات السياسية والقوى الاجتماعية والدينية، باستثناء "الإخوان المسلمين" وحلفائهم من السلفيين.

ومن أبرز الشعارات التي تم رفعها خلال ذلك الحصار الكارثي عبارة تقول: "يا مرسي إدينا إشارة.. واحنا نجيبهم في شكارة". والمقصود طبعاً أن الأنصار ينتظرون الأمر من الرئيس لقمع المعارضين، وبينهم بالطبع قضاة المحكمة الدستورية العليا.

تشير تلك العبارة إلى إحساس واضح بالقوة والسيطرة، ورغبة عارمة في الحصول على غطاء سياسي من "الحاكم الشرعي" أو "الإمام"، للانطلاق والقبض على المعارضين، وتكبيلهم، وجلبهم في "شكائر"، وإلقائهم تحت أقدامه.

تتم إعادة تلك العبارة من خلال تنويعات لفظية مختلفة على الفضائيات الدينية التي تعمل على مناصرة الرئيس وجماعة "الإخوان" والسلفيين وبقية تيارات الإسلام السياسي.

تستضيف تلك القنوات علماء دين دخلوا إلى عالم السياسة حديثاً، وبعضهم بدأ يعمل مذيعاً ويقدم برامج مختلفة، كما تستضيف أعضاء في جماعة "الإخوان" وبعض الجماعات ذات الإسناد الديني الأخرى؛ مثل "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية" والسلفيين وغيرهم.

وعادة ما يدور الحديث في تلك البرامج التي تعرض في فترات الذروة المسائية حول الأداء السياسي للمعارضة، حيث يمكن رصد مجموعة من الأوصاف التي تطلق بانتظام على فصائل المعارضة ورجالها؛ ومنها ما يلي: "فلول"، و"حشرات"، و"معفنين"، و"شواذ"، و"خايبين"، و"تلاميذ"، و"عملاء"، و"شريحة غير مسلمة"، و"أذناب"، و"خونة"، و"فسقة وفجرة"، و"أتباع الشيطان"، و"زنادقة"، و"لا يعرفون شيئاً عن صلاة الفجر"، و"مسيحيون"، و"علمانيون ونصارى"، و"مش فاهمين"، و"كلاب"، و"أولاد كلب"، و"أنجاس"، و"ضد المشروع الإسلامي"، و"أعداء الإسلام"، و"عملاء المشروع الصهيو- أميركي"، و"ضد الهوية".

وعندما استفحلت قضية "التحرش الجنسي"، وسادت اتهامات واسعة للسلطة وجماعات الإسلامي السياسي باستخدام تلك "الآلية"، لتلطيخ سمعة الثوار، وتفريغ الميادين من السيدات الناشطات المعارضات، خرج علينا بعض "علماء الدين" من أنصار الرئيس الذين وصفوا السيدات المتحرش بهن في الميادين بأنهن "صليبيات" و"أرامل".

كل وصف من هذه الأوصاف قاله، وكرره، قياديون وإعلاميون وناشطون في التيار المحسوب على الإسلام السياسي، وكل وصف من هذه الأوصاف يمكن أن يقودنا إلى كارثة حقيقية.

يشير تحليل الأوصاف السابقة إلى تصور السلطة وأتباعها ومناصريها لقوى المعارضة، كما يكشف أيضاً عن الخيارات المتاحة للتعامل معها.

لا شك أن خيار قمع المعارضة، وإسكاتها بأي ثمن، أو "تعبئتها في شكائر" يظل خياراً قائماً لدى تيار قليل الخبرة السياسية، يستند إلى أيديولوجيا مغلقة، ويبرهن كل يوم على فشله وعجزه عن حل المشكلات المتفاقمة في الدولة التي بات يحكمها، وينظر إلى الآخر باعتباره "خارجاً عن الجماعة" في أحسن الأحوال، أو "خارجاً عن الدين" في أسوئها.

لطالما كرر الرئيس مرسي عبارات تحذيرية شديدة اللهجة لمعارضيه؛ ومنها على سبيل المثال عبارته الشهيرة: "اتقوا شر الحليم إذا غضب"، أو: "لا يغرنكم حلم الحليم"، وهي عبارات يقولها عادة مع تحريك أصبع السبابة السلطوية.

تشعر سلطة الإسلام السياسي في مصر وتونس، ومعها أتباعها وأنصارها، بأنها "قوية، ومرهوبة الجانب، وقادرة على الفعل من دون حدود"، والأخطر من ذلك أنها تشعر بأنها "خير مطلق، مدعوم ربانياً، في مواجهة شر مطلق، مدعوم من الشيطان"، ولذلك فهي ستكون قادرة، وربما راغبة، في "إطاحة الرؤوس التي توسوس لها الشياطين"، بعدما ظهر بوضوح أنها أنتجت وضعاً ملائماً يُقتل فيه المعارضون وتستباح دماؤهم.

* كاتب مصري