في أول فبراير من عام 2009، كتبت في هذه الزاوية تحت عنوان "أردوغان على الطريقة العربية" مقالاً، حاولت فيه أن أحلل سلوك هذا الزعيم وطريقته في إدارة الأمور، معتبراً أنه يحكم بطريقة لا تختلف كثيراً عن غيره من الحكام العرب آنذاك، رغم أنه حقق نجاحات سياسية واقتصادية ملموسة لا شك فيها.

Ad

كان أردوغان في هذا التوقيت قد عاد للتو من منتدى "دافوس" بعد واقعة تلاسنه مع بيريز، وكان الأتراك والعرب والمسلمون منتشين انتشاء كبيراً بالطريقة التي تحدث بها مع الرئيس الإسرائيلي، وانسحابه من المنصة، معترضاً على السلوك الإجرامي العنصري الذي تمارسه الدولة العبرية بحق الفلسطينيين.

وحينما وصل أردوغان إلى بلاده، كان آلاف الأتراك في انتظاره يهتفون: "تركيا معك"، و"زعيم عالمي جديد"، و"لقد شاهد العالم قوة الأتراك"، وهي هتافات لم يسمعها من قبل، رغم تاريخه السياسي المرموق، ومدائح لم يتوقعها هو أو أي زعيم تركي غيره، حتى لو سدد ديون بلاده لصندوق النقد الدولي، أو حسن برامجها الصحية والتأمينية، أو خفض معدلات البطالة، أو زاد النمو الاقتصادي، أو طور سلاحاً نووياً.

أما العالم العربي، فقد شهد انبلاج زعامة أردوغان في هذا التوقيت، وصار الرجل أيقونة، خصوصاً لأنصار ما يسمى بـ"المشروع الإسلامي"، وهو الأمر الذي تحول لاحقاً إلى حجة مركزية في خطاب جماعات "الإسلام السياسي"، وذريعة رائجة أمكن من خلالها تعزيز حظوظ الإسلاميين في الانتخابات التي جرت لاحقاً في بلدان التغيير العربي.

كان مثل هذا التحليل بمنزلة سباحة ضد التيار آنذاك؛ بل إن بعض النقاد اعتبروا أن محاولة نقد سلوك أردوغان "الاستعراضي"، ومقارنته بالعلاقات الإسرائيلية- التركية المزدهرة، والروابط الاستراتيجية الوثيقة التي تربط الدولة العبرية ببلد الخلافة العثمانية، ليس سوى "تكلف" و"ادعاء"، و"تكريس للسلوك الانبطاحي العربي في مواجهة ألق الكرامة التركي". لا يبدو أن التحليل المشار إليه كان مجرد "تكلف أو ادعاء أو تكريس للسلوك الانبطاحي العربي"، كما لا يبدو أنه كان منفصلاً عن الواقع، بل ثمة ما ظهر ليعضده ويرجحه، خصوصاً بعد اندلاع الاحتجاجات في "تقسيم" واستمرارها لأكثر من أسبوعين.

لقد بدا أردوغان في إدارته لتلك الأزمة زعيماً عربياً بامتياز؛ إذ حاول الالتفاف على ضرورة معرفة الأسباب الحقيقية للاحتجاجات، مكتفياً بالقول إن وراءها "متطرفين وإرهابيين"، في الوقت الذي سعى فيه عدد من قيادات حزبه إلى التلميح بأن "أصابع خارجية" تؤجج تلك الاحتجاجات وتدعمها.

الأخطر من ذلك أن عدداً من قيادات الصف الثاني في حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، وبعض الكتاب المؤيدين للحزب والمناصرين لأردوغان راحوا يشيرون إلى أن المعتصمين في "تقسيم" ليسوا سوى بعض "العلمانيين"، و"المتطرفين" و"الشيوعيين" و"العلويين".

إنها طريقة عربية بامتياز، تلك التي تستدعي الطائفية للهروب من الاستحقاق وإحراز المكاسب السياسية الرخيصة، حتى لو كانت على حساب المصلحة الوطنية العليا والتماسك الاجتماعي والسلم الأهلي. إنه السلوك نفسه الذي يمارسه حكام عرب حين يفرقون بين المسلمين والمسيحيين لإحراز مكسب تافه أو عبور أزمة طارئة، أو يغرون السنة بالشيعة، أو يصفون الاحتجاجات ضد سياساتهم بأنها "طائفية"، ليهربوا من المسؤوليات الملقاة على عاتقهم.

يستخدم أردوغان وأنصاره، وسائل رخيصة إذن للخروج من الأزمة، وإضافة إلى ذلك فإن رئيس الوزراء يقدم تصوراً عن المحتجين يبدو منقطعاً عن العصر وذا نزعة "بطريركية"، ويعكس إخفاقاً واضحاً في فهم بيئة الاحتجاج وتحليل طبيعة المحتجين وأساليب التأثير فيهم.

يتحدث أردوغان بصرامة عن "نفاد صبره"، ويعطي للمحتجين فرصة أخيرة لترك الميدان، ولا ينسى أن يخاطب آباءهم: "افعلوا شيئاً لتسحبوا أولادكم من هناك".

يظن أردوغان إذن أن الشباب المحتج في "تقسيم"، أو في أي ميدان آخر من ميادين الاحتجاج في المنطقة، سيعود إلى البيت حين يهاتفه والده (الأكثر عقلاً وفطنة بالضرورة) ويطالبه بالعودة إلى المنزل. إنه فهم قاصر ومنقطع الصلة عن الواقع؛ فشباب هذا العصر ليس بهذه الصورة على الإطلاق.

لقد استطاع أردوغان، على مدى 11 عاماً في السلطة، أن يسيطر على المؤسسات الإعلامية الكبرى في تركيا، حيث فتّتت ملكية بعض الإمبراطوريات الإعلامية الكبيرة، وأجبر رجال أعمال بارزين من مالكي وسائل الإعلام النافذة على بيع ممتلكاتهم فيها، كما أوعز لعدد من رجال الأعمال من أنصاره لشراء حصص في مشروعات إعلامية، كما بسط هيمنته على وسائل الإعلام المملوكة للدولة وسخرها تماماً لتأييده ومساندة حزبه.

وكأي زعيم عربي يحكم بالسطوة والقمع، ويضيق بالرأي الآخر، ويعتبره "خيانة أو عمالة" أو "قصورا في الفهم" في أحسن الأحوال، حول أردوغان بلاده إلى "أكبر سجن للصحافيين في العالم" كما تقول منظمة "مراسلون بلا حدود".

تقول "مراسلون بلا حدود"، التي تعد إحدى المؤسسات المهمة والمعتبرة في مجال الدفاع عن حرية الصحافة والإعلام، في تقرير رسمي لها صدر نهاية العام الماضي، إن عدد الصحافيين المسجونين في تركيا أكبر منه في الصين وإيران وأريتريا وسورية، وهي بذلك تنضم إلى عدد كبير من المنظمات الدولية المحترمة التي عبرت عن انزعاج بالغ وقلق عميق من جراء الممارسات القمعية بحق الإعلام التركي.

لم يكتف أردوغان وحكومته بذلك، بل إن المجلس المسؤول عن الإعلام في تركيا قرر فرض غرامات على القنوات الفضائية التي أذاعت أحداث "تقسيم"، باعتبار أن تلك الوسائل "تساعد على التخريب وإشاعة الفوضى".

أما وسائط التواصل الاجتماعي، فقد حظيت بهجوم حاد وشرس من قبل رئيس الوزراء، الذي وصفها ببساطة بأنها "خطر على المجتمع" و"منبع للأكاذيب".

هل يمكن إذن تشبيه أردوغان بالزعماء المستبدين العرب؟

ربما سيجد البعض صعوبة في الموافقة على هذا التشبيه، وربما يتذرع هؤلاء بأن أردوغان تم انتخابه ثلاث مرات متتالية في انتخابات نزيهة، وأنه فضلاً عن ذلك أظهر حنكة وبراعة كبيرة في تخليص بلاده من الحكم العسكري ومن سطوة المؤسسة العسكرية، كما حقق نجاحات اقتصادية باهرة.

تبدو تلك الحجج وجيهة، لكنها لن تكون كافية لتبرئة أردوغان من نزعته السلطوية الواضحة التي تجعله شبيها ببعض زعمائنا العرب. فقد انتخب أردوغان ثلاث مرات رئيساً للوزراء، وأمضى في السلطة 11 عاماً، وأمامه عام آخر يتم به الفترة التي يسمح بها الدستور التركي لأي شخص بأن يتولى منصب رئيس الوزراء... فماذا سيفعل بعد ذلك؟

يخطط أردوغان لاستخدام أغلبيته البرلمانية في تمرير تعديلات دستورية تمنح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، وتنقل النظام السياسي التركي من وضعية النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، بغرض واحد فقط وهو أن يظل محتفظاً بسلطته؛ وهو الأمر الذي سيسمح له بالحكم لعقد آخر جديد.

خطة أردوغان إذن واضحة، وهي أن يظل في الحكم لمدة ربع القرن، وهو أمر لا يختلف فيه أبداً عن أي زعيم عربي مستبد من هؤلاء الذين حققوا طفرات اقتصادية ونمواً في بلادهم.

لن يكون بمقدور أي زعيم، مهما امتلك من عبقرية وبرهن على نجاعة الأداء، أن يقنع الناس في هذا العصر بأنه يجب أن يحكم لربع قرن، تلك مسألة انتهت، وعلى من يشكك في هذا أن يجرب.

* كاتب مصري