منذ الوهلة الأولى لانطلاقة التظاهرات في 23- 12- 2012 أخذ نوري المالكي يزيد من رصيده التناقضي تجاهها، فقد وصفها بـ"الفقاعة"، و"النتنة"، و"على المتظاهرين أن ينتهوا قبل أن يُنهوا"، وصولاً إلى نعتها بـ"الطائفية المدعومة من الخارج"، ولعل سعير اضطرابه أوصله إلى أن يكرر في الأيام القليلة الماضية: "إن الحرب الطائفية على الأبواب"... وكأنها موصدة أصلاً.

Ad

الغريب في تناقضات المالكي، رغم أنه قد وصل إلى السلطة عبر "المحاصصة" السياسية الطائفية المقيتة، التي لن تخرج العراق وأهله إلى بر الأمن والأمان، إلا بالقضاء عليها جذرياً، هو تجاهله لهتافات وشعارات المتظاهرين السلميين المضادة للنعرة الطائفية، والداعية جهاراً نهاراً إلى وحدة العراق أرضاً وشعباً؛ حيث يتهمها عنوة بالنهج الطائفي. وينسى أو يتناسى مهام "مديرية دمج الميليشيات" المرتبطة بمكتبه، وعدد موظفيها 130 شخصاً، وميزانية رواتبهم السنوية تزيد على 93 مليار دينار عراقي. حيث تزج بالعناصر الميليشاوية الطائفية داخل صفوف الجيش، ليستخدمهم في القمع والاعتقال والمداهمة والتصفية وكل أنواع الحيف والجور والظلم والاستبداد بحق الوطنيين العراقيين الرافضين للاحتلالين الأميركي والإيراني، ولإمّعاتهم المتربعين على عرش السلطة في المنطقة الخضراء.

وكذلك يتناسى المالكي في تناقضاته عن مذكرة الاعتقال التي صدرت من مكتبه في 9- 2- 2013 بحق واثق البطاط، عندما أعلن الأخير تشكيل "جيش المختار" الطائفي في الثاني من ذلك الشهر. فما زال البطاط حراً طليقاً غير مكترث لدولة القانون التي يتشدق بها المالكي، والدليل ظهوره الإعلامي المباشر، لا سيما مع قناة "الشرقية" الفضائية.

بل الأنكى من هذا وذاك هو قول المالكي في 15- 12- 2011 أثناء زيارته إلى واشنطن، عندما سألته صحيفة "الغارديان" البريطانية: كيف يصف نفسه؟ أجاب قائلاً: "أنا شيعي أولاً"، حيث قدم طائفيته على العروبة وعلى الهوية والوطنية، وهكذا اعتراف جلي إنما يعكس العقلية الطائفية التي تنضح عند المالكي شفوياً، وتمزيقه للوطن والنسيج الاجتماعي عملياً.

هذا ويدَّعي المالكي أنه قد نفذ مطالب المتظاهرين، ومنها إطلاق سراح المعتقلين! في حين أن الذين أفرج عنهم، إما أنهم أبرياء لم يصدر بحقهم أي إدانة قضائية قط، وإما قد أكملوا مدة محكوميتهم ولم يُفرج عنهم. ناهيك عن الحديث عن المسرحية الهزلية التي ظهر بها نائب المالكي لشؤون الطاقة حسين الشهرستاني، وهو ينص على الإفراج عن 350 معتقلاً، ووزع عليهم المصاحف، ولكن ما إن انتهى التصوير حتى تم إعادتهم إلى سجن المثنى، بمطار المثنى مقر حزب الدعوة الذي يرأسه المالكي، ولم يطلق سراح غير ثلاثة فقط، وكذلك اعتقل ثلاثة وعشرون فرداً، بعد أيام من نيل حريتهم. ومقابل الأعداد الضئيلة التي أفرج عنها في شهر فبراير المنصرم، فإن ما ذكرته وزارتا الدفاع والداخلية تشير إلى أنه تم اعتقال نحو 700 مواطن خلال ذلك الشهر.

إن تناقضات المالكي ستستمر، سواء حيال التظاهرات أو غيرها؛ لذا لا نتوقع منه أي استجابة حقيقية يلبي فيها حقوق المتظاهرين والمعتصمين، وأن توديع الشهر الثالث واستقبال الشهر الرابع، لا يعني أن الزمن مفتوح لهذه التظاهرات والاعتصامات، فما يجري في العراق لا ينفصل عمّا يجري بمحيطه العربي ضد الظلم والطغيان، وأن الحفاظ على سلمية المظاهرات لا يعفي أصحابها من الثأر لدماء الشهداء الذين سقطوا بجمعة "الفرصة الأخيرة" في الموصل، ومن قبلها في مدينة الفلوجة، إذ إن تناقضات المالكي لا تنظر إلى رصاص قواته القاتلة على صدور المدنيين بأنها جريمة، بل ضمن عمليات مكافحة الإرهاب. هذه النظرة التي جعلته يؤمن بعقلية طائفية تبيح له القتل والاغتيال والاعتقال والاغتصاب.

إن منطق الأحداث الجارية في العراق، تُنبئ بأن قادم الأيام سيكون فيها منعطف تاريخي جديد، فتواصل المظاهرات واستمرار الاعتصامات قد أخذا حيز الحركة الاحتجاجية، وتصاعد الانتفاضة بكثرة دماء الشهداء يؤدي حتماً إلى ثورة شعبية عارمة. خصوصاً أن عموم الشعب العراقي قد ناله الحيف والجور من سياسة المالكي. تلك السياسة المتناقضة التي طالت حتى الذين يشاركونه بالعملية السياسية، وأن رضا طهران وواشنطن لا يمنع عنه غضب الشعب، وأن ميليشياته المدمجة بالجيش لن تكسر إرادة الشعب، وما بين الغضب والإرادة سينفجر أكثر دوي البركان الشعبي الثائر.