حسين علي يونس: الروايات الكبيرة كتبت على أرضية الشعر
أصدر الشاعر العراقي حسين علي يونس روايته الأولى «يوميات صعلوك»، وفيها يحضر طيف الشاعر جان دمو بوصفه معلماً وشاعراً مهمشاً. يحلم يونس بكتابة قصيدة كبرى أو رواية، دون أن يحقق حلمه، رواية تتسم بروحية الشعر والشكل التجريبي الذي يعكس واقع الثقافة العراقية. معه الحوار التالي.
لماذا اخترت أن تكتب عن الشاعر جان دمو، الذي بدا غائباً في روايتك أو لنقل حضر طيفه وصورته فقط؟ ربما من يعرف دمو يدرك عما تتحدث، لكن القارئ العادي سيسأل عن جان دمو الحقيقي.
لأن الرواية ليست تأريخاً ولأنها تنتمي إلى نسيج الخيال أيضاً، فمن حق أي كاتب هوايته متابعة الخيال أن يكتب بالطريقة التي تستهويه. ثمة فصول ومواقف هي عبارة عن ذكريات، لكن العمل يأتي من نسج الخيال إجمالاً. قدّمت جان بوصفه معلماً وشاعراً مهمشاً يحلم بكتابة قصيدة كبرى أو رواية، من دون أن يحقق حلمه. كان طيف جان حاضراً في العمل وشخصيته. حتمت طبيعة العمل علي أن أكتب بهذه الطريقة، ربما سيكون جان حاضراً بقوة أكبر في الجزء الثاني الذي هو قيد الإنجاز.لماذا لم تكتب سيرة لجان دمو التي تبدو حياته كأنها رواية تراجيدية؟الحقيقة أني كتبت عن جان الذي أعرفه، أما جان الذي يعرفه البعض من خلال ما كتب عنه فلم يكن هو جان الحقيقي. كان جان الحقيقي متفائلاً وأريحياً، يميل إلى الدعابة والسخرية المريرة. كانت حياته سهلة، لم تكن تراجيدية أبداً في بعض مفاصلها. لقد عومل معاملة الملوك وكان الأصدقاء والأعداء يغدقون عليه ويمدون له يد العون عندما يكون في أقصى درجات العوز. لم يكن يحتكم على حس تراجيدي ربما لأنه لم يكن يحمل عبء مسؤوليات كبيرة. كتابة السيرة شيء وكتابة الرواية شيء آخر. عموماً انتهيت من كتابة سيرة لجان ربما ستظهر قريباً في مكان ما بكتاب منفصل يحتوي على تركته كلها.لماذا جمعت في العنوان بين الصعلكة الشعرية والجبهة أو السلطة والحرب التي ربما تتناقض مع الصعلكة والشعر؟تلك مواضيع عراقية محضة. لو كنتَ عراقياً لعرفت دون كبير جهد أن تلك المواضيع متداخلة إلى أبعد الحدود ومن المستحيل أن تتناول حياة أي شاعر عراقي من دون أن يعبر أفق هذه المفردات. ثمّة أنساق تتحكم بحياة الفرد وتقوده إلى السلخ دون إرادتِه. أن تكون شاهد عيان مأساوياً لا يتعارض مع طبيعة الشعر والصعلكة. لقد أجبرت مئات الألوف من العراقيين على الدخول في حروب دموية لا ناقة لهم فيها ولا جمل مع إيران. كذلك دخل الكويت بإرادة طاغية حكم العراق بالدم وبكومة من الحثالة سخرتُ منهم في «يوميات صعلوك». تعرضت للاعتقال أكثر من مرّة وفررت من أداء الخدمة العسكرية واعتُقل إخوتي ووالدتي وأطلق الأميركيون سراحهم وأنا أكتب الشعر والتصعلك كان نوعاً من الحل بالنسبة إليَّ. أين تجد التناقض في هذا؟ جان أيضاً كتب شعراً وأجبروه على الذهاب في قاطع من قواطع الجيش الشعبي.ألا تشعر بأنك تكتب روايتك وأنت على أرض الشعر ولم تدخل أرض الرواية؟ بمعنى أنك بقيت في دائرة المقاطع القصيرة والاختزال وتجنبت حتى مجرد الثرثرة، وفي مكان آخر تفضل الواقع على الخيال؟كتبت الروايات الكبيرة على أرضية الشعر. حتى إنها عدت قصائد وملاحم شعرية مثل «موبي ديك، دون كيشوت، المعلم ومارغريت، الصخب والعنف»، وغيرها. فضلاً عن أن تجنب الثرثرة ميزة وليست مثلبة لأنها تصيب العمل في مقتل. كانت الواقعية النقدية دائماً سمة أساسية لكل الروايات في الكون. لنرى العالم بمفاصله كافة يجب أن نختزله. من النادر أن نجد اليوم من يتم قراءة رواية مكتوبة بكتلة واحدة لأن ذلك يرهق القارئ ويصيبه بالضجر. هل ما زلت حائراً بين أن تكون شاعراً أو أن تكون روائياً؟لم يعد التجنيس عائقاً في عالم الكتابة. يمكن رؤية العالم بأشكال وطرق مختلفة. كان الشعر دائماً حاضراً في الرواية، ما الذي يمنع إن زحفت الرواية في اتجاه الشعر؟ نتذكر جميعاً رواية سولير «كازانوفا الرائع» ورواية «خريف البطريرك» لماركيز، وثمة أيضاً «ناديا» لأندريه بريتون وروايات غوغول الصغيرة الطافحة بالشعر: «الأنف، المعطف، اللوحة» وغيرها. وذلك العمل الكبير «أناشيد مالدورو» للوتريامون. لا أخفي طبعاً أني كتبت هذا العمل كقصيدة نثر طويلة، لكني اعتقدت أيضاً أنها ستُقرأ بشكلٍ سيئ إذا أطلقتُ عليه كتابة قصيدة، فكتابة القصيدة بهذا الطول تحتاج إلى مد زمني أكبر غير ذلك الذي تحتاج إليه الرواية. فضلاً عن أن دور النشر تفضل أن تطبع الرواية دون الشعر لسهولة نشر أي شيء في هذا الزمن ولاتساع رقعة الشعر. لقد أصبح الشعرُ شخصياً للغاية وهذا يحد من فاعلية الشاعر ونتاجه.اخترت أن تكتب الرواية بأسلوب الشذرات التي أبدع فيها الكثير من الفلاسفة وباتت في زمن الـ{فيسبوك» علامة كتابية جديدة، في رأيك هل مستقبل الشكل الكتابي سيكون شذرياً؟عندما تفكر في أن تكتب كتاباً تحقيقاً لرغبة صديق أعتقد أنك ستجنح صوب هذه الطرق التي أتيح لي أن أسير في منزلقاتها. لقد كانت محاولة لا أكثر. تغير شكل العالم وبالتالي الطرق التقليدية في العالم يجب أن تتغير، فضلاً عن أن الأسلوب الشذري يبدد طابع الرتابة، لذا لا يلجأ أي كاتب رواية هذه الأيام إلى كتابة روايته على طريقة بروست لصعوبة الحياة المعاصرة ولضيق الزمن المتاح لك لتقرأ كتاباً أيضاً. سبق لنيتشه أن كتب كل كتبه بهذه الطريقة، كذلك سيوران وكيركغارد وغيرهم.لماذا اللجوء إلى اختيار مفردات قاسية و{سوقية» ونافرة واستفزازية، إذا جاز التعبير، في روايتك؟لأن ذلك كله من واقع الحياة. تشذيب الحياة وجعلها مثالية لا يمنحك طابعاً مغايراً يجعلك تكتب بالضد مما تكتب. لا تنتج الحياة المثالية أدباً أو سينما أو مسرحاً حقيقياً، وبالتالي فإن ما ينطبق على السينما والمسرح ينطبق على الأدب. محفزات الكتابة والتأليف في هذه المجالات كافة هي محفزات ربما سوقيّة. الخيانة، القتل والبذاءة وما إلى ذلك... من المستحيل أن تنتج أدباً من دون هذه الأمور كافة.تكتب الرواية وتختار لغلافها شذرة: عندما تكون شاعراً، يمكنك أن تحل الإشكال القائم بين الوجود وكينونة الوجود...»، لماذا هذا الاختيار بالذات؟عندما كتبت هذا النص انطلقت من وجهات نظر شعرية رغم أنني لم أضع هذه الشذرة في غلاف الكتاب. كتبتها في المتن، لكن دار النشر اختارت هذه الشذرة لتضعها على الغلاف. كانت موفقة جداً في قراءة العمل وبالتالي فإن هذه الشذرة هي التي شكلت بؤرة العمل.