في رواية «الحمار» للألماني «غونتر ديبرون»، التي ترجمها إلى العربية الروائي صنع الله إبراهيم، تردّ عبارة: «إن بعض الأشياء تبعث على قليل من الحزن ومزيد من الكراهية، لأنها تتمتع بديمومة أكثر من الحياة الإنسانية». وربما شيء من هذه العبارة ينطبق على طقوس التكريم في دولنا العربية. فمؤسساتنا الثقافية الرسمية والأهلية، تتجاهل المفكر والمبدع طوال حياته، وأحياناً تمعن في التجاهل حد العمى، وسرعان ما تتداعى هذه المؤسسات وتشتط اهتماماً بالمفكر والمبدع نفسه حين يموت، وكأن الموت هو الشرط الأساسي للتكريم! فلكي يستشعر المواطن العربي أهمية أي مفكر أو شاعر أو روائي أو مثقف أو أي شخصية ذات نشاط اجتماعي مهم ومؤثر، فعلى تلك الشخصية أن تنتحر أو تموت لكي تنال حظها من الاهتمام والتكريم، لذا فإن الموت شرط للتكريم، وهذا تكريم ميت بدوره!

Ad

ليس أجمل على الإنسان من أن يستشعر قيمة ما يعمل أثناء حياته، وليس أسعد لقلبه من رؤيته لأبناء وطنه وهم مجتمعون من حوله يقدّرون جهده، ويثمّنون إخلاصه، ويكافؤنه بالإحسان جزاء للإحسان. وإذا كان سلخ الشاه بعد موتها لا يعينها بشيء، فإن تكريم المفكر والمبدع بعد موته إذا عنى أحداً فإنه يعني أحياء الدنيا ولا يعنيه، هو الذي توسد تربة القبر وغاب عن صخب الدنيا!

الدول المتقدمة، والشعوب الحية تُقيم وزناً للإبداع وللجهد الإنساني الخلاق، وتميّز بين من يعمل لنفسه وجيبه وحضوره الاجتماعي الكريه، وبين من يُخلص من أبنائها لفكر أو قضية أو مبدأ أو صنعة أو فئة من الناس، ويتفانى في سبيل ذلك. ولذا تكرّم تلك الدول أبناءها أثناء حياتهم لتبعث السرور في قلوبهم، وتزيد من توقد جذوة العطاء فيها، وليمشي المفكر والمبدع مرفوع الهامة بين أبناء شعبه، مزهواً بعطائه ومعاهداً نفسه على المزيد منه.

ما الذي يجنيه المفكر أو المبدع، الذي يعاني بؤس العيش وربما القهر والذل والتهميش وحتى السجن والنفي، ما الذي يجنيه بعد موته من تكريم كاذب لا معنى له، وإطلاق اسمه لتخليده على شارع أو مدرسة أو قاعة أو معهد؟

مشهد مؤلم وموجع يتكرر في كل العواصم العربية، في احتفالات التكريم، حين يُنادى على اسم المكرَّم وتضج القاعة بالتصفيق، ووحده ذاك المكرم أما أن يجرّ أقدامه متكئاً على عصا تسند خطواته، أو يجلس على كرسي متحرك، أو يتفضل، بلفتة إنسانية بأن ينزل المسؤول من خشبة المسرح لتكريم المبدع الذي عجز عن الصعود للخشبة. وقد يكون المشهد أكثر دلالة حين يأتي أحد أبناء المكرم لاستلام شهادة تكريمه نيابة عنه بعد موته!

نحن شعوب متخلفة أقل من أن نعترف لذوي الفضل بفضلهم! وأقل من أن نعترف للمفكر والمبدع بفكره المستنير وإبداعه المتجدد، بل إننا نسعى بهمة لتنغيص حياته والتضييق عليه وتهميشه وربما محاربته، لا لشيء إلا لأنه مفكر أو مبدع! وأبسط ما يمكن أن يُقال في ذلك هو أن المفكر بفكره النيّر، والمبدع بإبداعه الصارخ، إنما يكشف كلاهما عن تخلفنا وضعفنا وسقوطنا، وعجزنا عن تذوق وتقبّل وفهم ما هما بصدده. إن إبداع المفكر والمبدع يفضح تخلف الآخرين، ولذا يسعى الآخرون إلى طمس وجوده ومحاربته، ولا يعترفون له بجهده إلا بعد موته!

إن للكويت سمعة فكرية وثقافية وفنية كبيرة في وسط محيطها الخليجي والعربي، ومؤكد أن هذه السمعة لم تأت من فراغ، وأنها جاءت بفضل جهد أبنائها المخلصين، وليس أقل من أن نكرم هؤلاء أثناء حياتهم وأثناء حضورهم الإنساني الجميل، وليس حين يأكل المرض أجسادهم، ويغيبهم الموت!