-1-

Ad

الليبراليون العرب فرحين الآن، كما لم يفرحوا منذ عدة قرون،

فهم لم يفرحوا في تبني الخليفة المأمون لرأي المعتزلة في مسألة "خلق القرآن"، كما فرحوا اليوم عندما زال حكم "الإخوان المسلمين" من مصر.

وهم لم يفرحوا في هجوم المستشرق الفرنسي آرنست رينان على الإسلام، ورد جمال الدين الأفغاني عليه، في القرن التاسع عشر، كما فرحوا اليوم بسقوط دولة "الإخوان المسلمين" في مصر.

وهم لم يفرحوا بجدل فرح أنطون مع الشيخ محمد عبده حول الدين والسياسة والليبرالية، كما فرحوا اليوم بانتصار حكم الليبرالية المصرية بعد عامين من الانتظار والصبر.

وهم لم يفرحوا برسالة شبلي شميّل إلى السلطان العثماني (الأحمر) عبدالحميد الثاني في بداية القرن العشرين، يحثه فيها على وضع دستور للبلاد، والالتزام به، وإقامة العدل والإحسان، واحترام وجهة نظر المعارضة، كما فرحوا عندما ساند الجيش المصري الوطني الثورة الوطنية المدنية، ضد سيطرة الأصوليين المتشددين والمتطرفين على الحكم في مصر.

وهم لم يفرحوا بصدور كتاب عبدالرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" في 1902، والدوي الليبرالي الكبير الذي أحدثه، كما فرحوا عندما سقط الشيخ السلفي محمد مرسي كخليفة من الخلفاء الأمويين أو العباسيين، ولكن بلباس مدني، وبهيئة معاصرة.

-2-

ربما، ستتكرر في المستقبل الأزمة السياسية المصرية الحالية، ما لم تقم مصر بالخطوات السريعة التالية، التي من شأنها تخفيف وطأة الأزمة السياسية، واختفائها لمدة طويلة. ومنها- كما سبق أن قلنا في مقالنا، في الأسبوع الماضي، وعلى هذه الصفحة- إيجاد حل علمي سريع لمشكلة زيادة السكان زيادة سريعة غير عادية. ومحاولة التخفيف من حدة الفساد المالي والاعتداء على المال العام.

ومنها إصلاح أنظمة التعليم، وإعادة النظر في المناهج الدراسية لتخريج كفاءات يحتاجها فعلاً سوق العمل المصري والعربي، وتخفف من نسبة البطالة المرتفعة التي تهدد مصر والعالم العربي اقتصادياً وسياسياً.

-3-

قال المفكر والفيلسوف الألماني هيغل (1770- 1831) في القرن الثامن- التاسع عشر، ما معناه؛ أن التحقيق شرط التجاوز. ولكي نعرف ما في داخل "حبة الجوز" (عين الجَمَل) يجب كسرها.

وهذا بالضبط ما حصل في مصر هذه الأيام.

فقد كتبنا، في الماضي عدة مقالات، في صحف مختلفة، نأمل فيها أن يرتكب "الإخوان المسلمون" الخطأ الأكبر وهو تولي السلطة، لكي يكشفوا أوراقهم السياسية للشارع. ودعونا فيها، إلى تولي "الإخوان المسلمين" السلطة وتجربة الحكم- الذي لن يطول- في مطلع الألفية الثالثة، والقرن الحادي والعشرين بكل تحدياته، ومتطلباته، وتغيراته. وانتهزنا فرصة شبق "الإخوان المسلمين" للحكم، وشهوتهم السياسية الجامحة للسلطة، منذ عام 1942، عندما ترشح مؤسسهم الشيخ حسن البنا للانتخابات البرلمانية في ذلك العام، ولكنه انسحب، بناءً على ضغط سياسي من النحاس باشا رئيس الوزراء آنذاك، ومقابل منح "جماعة الإخوان المسلمين" رخصةً، لفتح فروع لها في المحافظات والأقاليم المصرية كافة.  وكان البنا قد خاض الانتخابات أكثر من مرة بدائرة "الدرب الأحمر" بالقاهرة، لكنه لم يفز في أي مرة، ولا في أي دائرة، لا هو، ولا زملاؤه، بمن فيهم أحمد السكري سكرتير "الجماعة" الذي كان مرشحاً بالمحمودية (مسقط رأسه).

وظلت حلاوة السلطة، ولذتها السياسية، مطلباً لـ"الإخوان المسلمين" في العصرين الملكي والجمهوري المصريين، إلى أن ظفروا بها في عام 2012، ووقعوا في حفرتها القذرة، ووحلها الوسخ، ولم يعودوا هداةً لا قضاة، كما قال لهم، وأوصاهم مرشدهم الثاني السابق الراحل حسن الهضيبي (1891-1973)، في الخمسينيات من القرن الماضي، ولكنهم لم يعوا، ولم يسمعوا، فسقطوا بدوي عالٍ.

-4-

فما مظاهر الدوي العالي، الذي انتشر في العالمين العربي والإسلامي، وفي العالم كله، على إثر سقوط دولة "الإخوان" في مصر، هذا السقوط المروِّع؟

1-لا شك، أن سقوط دولة "الإخوان" في مصر، يعتبر نصراً كبيراً لكل الفرقاء المعارضين لمنهاج "الإخوان المسلمين" الديني، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والإعلامي. فكما فرح "الإخوان المسلمون" عام 2012 عندما نجحوا في الانتخابات الرئاسية، وفازوا برئاسة الجمهورية، وبالحكومة، وعيَّنوا جملةً منهم كمحافظين في المحافظات المصرية المختلفة، وعزلوا معارضيهم من الجيش، فكذلك غمر الفرح الآن، المعارضين كافة لمنهاج "الإخوان المسلمين".

وهذه هي السياسة: "يومٌ لك، ويومٌ عليك".

2- إسقاط دولة "الإخوان المسلمين" في مصر، كان يتطلب عملاً شاقاً ومضنياً، ويتطلب وقتاً طويلاً وجهداً متواصلاً من المعارضين لمنهاج "الإخوان المسلمين" كافة لأسباب كثيرة، على رأسها الشرعية الانتخابية التي جاؤوا من خلالها. فهم لم ينالوا السلطة بانقلاب عسكري على ظهر دبابة، ولم يرثوا الحكم وراثياً، ولم يفوزوا بالسلطة بحراب الجيوش الأجنبية، إنما فازوا بالحكم من خلال صناديق الاقتراع، وإن كان من اقترع لهم هم الفقراء، والبسطاء، والغشماء، كذلك.

فمن مظاهر ديمقراطية هذا العصر صناديق الاقتراع، بغض النظر عن المستوى الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي... إلخ للناخبين. وتلك واحدة من عيوب الديمقراطية في العصر الحديث. ولكن جهد المعارضة لإسقاط دولة "الإخوان المسلمين" في مصر، كان أقل من أثر فشل دولة "الإخوان المسلمين" في الحكم، وأقل من أثر تكالب "الإخوان" السريع والصبياني للسيطرة على مقاليد الحكم في الجيش والأمن العام والمخابرات والإعلام والحكم المحلي... إلخ. فهم قد تسلموا الحكم مدة عام واحد فقط، ووجدوا من المشاكل والملفات المعقدة، ما لم يتخيّلوه. فكان عليهم التمهل قليلاً في السيطرة على أركان الدولة كافة، ولكنهم تسرَّعوا، فكانت النكبة.

ولا ننسى أن "توقيت" تسلُّم السلطة من قبل جماعة دينية كان توقيتاً خاطئاً.

فلو جاء "الإخوان" قبل مئة عام أو في مطلع القرن العشرين فلربما نجحوا، أكثر مما نجحوا الآن.

-5-

سقوط دولة "الإخوان" في مصر يعتبر فشلاً ذريعاً، وانكساراً أكيداً، ونكسة كبرى لـ"جماعة الإخوان المسلمين" في مصر وخارجها أيضاً.

وربما قضى "الإخوان المسلمون" ثمانين سنة أخرى، لكي يحققوا ما حققوه في 2012 من نصر سياسي كبير. أما في خارج مصر، فمن المعروف أن المعارضة القوية في  تونس وسورية والأردن خصوصاً، كانت تتمثل قوتها وعزمها، بقيادة "جماعة الإخوان المسلمين" لهذه المعارضة. ومن الملاحظ، أن هذه المعارضة في هذه البلدان قد ضعفت، وهزلت نتيجة لسقوط "الإخوان" في مصر. بل إن المعارض لمنهاج "الإخوان" المتمثل بـ"حزب النهضة" التونسي الحاكم ها قد بدأ يلقى مقاومة شديدة من معارضيه. وسوف نشهد في الفترة القادمة خفوتاً، وربما اختفاءً لأصول كثيرة، كانت تؤيد منهاج "الإخوان".

* كاتب أردني