لا شك أن المناخ العام للمشهد الأدبي إبان الخمسينيات والستينيات، وكان مناخاً زاخراً ومتجدداً، له أثره في رفد الشعر النسوي بالوعي والمواكبة للطروحات الأدبية والفكرية حينذاك. إذ لا يمكن التحدث عن سمات شعرية أنثوية كالذاتية، والميل إلى الحزن، والبحث عن عوالم مثالية، والتغني بعذوبة الحب وأحلام الحرية... إلخ، دون استحضار أثر الرومانسية عامةً، ثم أثر جماعة أبولو خاصةً، أو دون تذكّر أطروحة (الأدب المهموس) التي راجت على يد الناقد محمد مندور. بل حتى الدعوة إلى حركة (الشعر الحر) تكاد تبدو أثراً من آثار ترقيق الموسيقى والإنصات إلى تردداتها الغامضة المُتكتّمة، ورنينها المُتخفّي في الشطر والتفعيلة، والتي كانت قد ظهرت بوادرها في شعر المهجر ومقطوعاته المتنوعة القوافي وأشطره القصيرة الأطوال وثراء موسيقاه الداخلية الباطنة.

Ad

لعل كل هذا يؤكد أن الشعر النسوي في هذه المرحلة كان يتأسس على مهاد معرفي صلب وعلى وعي ناضج بأدوات العصر وعلى مواكبة ثقافية للمشهد الأدبي المتسارع في زخمه ومتغيراته. ولعل الشواعر من النساء خاصة كنَّ يحتجن إلى تأكيد هذه الخلفية المعرفية في مسيرتهن الإبداعية لتكون لهن بمثابة جواز المرور في وسط ثقافي لا يطمئن كثيراً إلى موهبة المرأة وتميّزها، ويظل يرين عليه الشك والظن في أهليتها للقول ما لم تقدم ما يثبت أن لها باعاً معرفياً ووعياً متقدماً في فنون الأدب. ويكاد المتأمل أن يتيقن أن الالتفات إلى نازك الملائكة على مستوى المداولات الأدبية كان التفاتاً إلى الناقدة المتمكنة والمُنظّرة القديرة لحركة (الشعر الحر)، أكثر بكثير من كونه احتفاءً بشاعرة، رغم ما لشعرها من أثر ومكانة. ولو اكتفت نازك الملائكة بمجموعاتها الشعرية، وأسقطت من حياتها الأدبية نظريتها في (الشعر الحر) ومقالاتها النقدية في كتاب (قضايا الشعر المعاصر)، وكتابها حول الشاعر علي محمود طه، ومحاضراتها حول المرأة والمجتمع، لو حقاً فعلت ذلك لفقدت الكثير الكثير من اعتراف الوسط الاجتماعي والثقافي بشعرها وقيمته، ولعجزت عن لفت الانتباه إلى ما يتضمنه من أطروحات ورؤى!

إن مشكلة التوجس من قبول المرأة الشاعرة والشك في قدراتها والتردد إزاء ما تطرحه من قيم شعرية جديدة يكاد يتكرر في مثال فدوى طوقان أيضاً. فرغم ما لهذه الشاعرة من تهاويم ذاتية غاية في الرهافة والأنوثة، ومن شجن حميم، وتوجّه مشبوب نحو الحب والموت وعبثية الحياة، إلا أن كل ذلك لم يقدمها كشاعرة ذات نَفَس إنساني بقدر ما قدّمها موضوع القضية الفلسطينية كمناضلة ومُقاوِمة في حزمة شعراء المقاومة الرجال! إن القضية الفلسطينية هي التي أعطت شعرها وَهْجَه وأهميته الموضوعية على مستوى المشهد الثقافي الأدبي حين جعلت هذه القضيةُ الشاعرةَ ممتثلةً وخاضعة للنسق الثقافي المرغوب ذي القيم الذكورية. والطريف أن الإطار (الموضوعاتي)، وهو القضية الفلسطينية، بكل ما فيه من إغراءات المُباشَرَة والتوجه للعموم والنفرة نحو تجييش العواطف القومية، وكلها بضاعة ذكورية، هو الذي ضمن القبول للمرأة الشاعرة في فدوى طوقان حين خضعت لهذه المعايير، وليس أي شيء آخر ذي علاقة بهويتها الأنثوية! وقد اتضح لدى الشاعرة ذلك الشعور الحاد بالانسحاق والعجز إزاء تلبية هذا الشرط الثقافي حين تتحدث في سيرتها الحياتية عما عانته من صراع مرهق وكدح عسير للمواءمة بين ذاتيتها المقموعة المكبلة بالقهر والقيد وبين ما يطلبه واقعها الثقافي والسياسي من واجبات وما يفرضه عليها من خطاب شعري لا تجد نفسها فيه:

"كان أبي يأتي إليّ طالباً مني كتابة الشعر السياسي. وكان صوت في داخلي يرتفع بالاحتجاج الصامت: كيف وبأي حق أو منطق يطلب مني والدي نظم الشعر السياسي وأنا حبيسة الجدران؟ لا أشارك في معمعة الحياة، حتى وطني لم أكن قد تعرفت على وجهه بعد، إذ لم أكن أعرف مدينة أخرى غير نابلس... كان أبي يطالبني بالكتابة في موضوع بعيد عن اهتمامي كل البعد، وليس له أية علاقة بالحركة النفسية في داخلي، فكان يطغى عليَّ الشعور بالعجز، وحين آوي إلى فراشي أسلم عينيّ للبكاء... لقد كنتُ معزولة عزلة تامة عن الحياة الخارجية، وكانت تلك العزلة مفروضة عليّ فرضاً ولم أخترها بإرادتي. فالعالم الخارجي كان (تابو) محرماً على نساء العائلة... وأصبتُ بمرض بغض السياسة. ففي هذه المرحلة بالذات عانيت صراعاً نفسياً وفكرياً حاداً. كنت أحاول الاستجابة إلى رغبة أبي لكي أرضيه وأكسب محبته، ولكن أعماقي كانت تحتج وترفض وتتمرد. إذا لم أكن متحررة اجتماعياً فكيف أستطيع أن أكافح بقلمي من أجل التحرر السياسي أو العقائدي أو الوطني ؟".