بدأ كل شيء بعشرين كلمة كانت تهدف إلى إبقاء باراك أوباما خارج إطار الحروب، وكان مقتل عشرات الآلاف في سورية مأساة عالمية بحسب ما صرح به للمراسلين منذ سنة، مع أن أسوأ الأهوال لم تحصل إلا بعد أشهر على تصريحه، لكن بصفته رئيس البلاد، اضطر إلى التركيز على المصالح الاستراتيجية الأميركية ولم يستطع التدخل في كل مأساة إنسانية حول العالم.

Ad

ثم أطلق تحذيره الخاص وقال: "الخط الأحمر بالنسبة إلينا هو أن نبدأ برؤية مجموعة كاملة من الأسلحة الكيماوية وهي تتنقل أو تصبح قيد الاستعمال".

بعد مرور سنة، ها هو الرئيس الذي سعى بكل وضوح إلى الابتعاد عن أحداث الشرق الأوسط يجد نفسه الآن عالقاً في موقف محرج بسبب ذلك الإعلان الذي يبدو بسيطاً ظاهرياً. كان عدم تحريك أي ساكن مقابل صور الأطفال الذين قُتلوا بالغاز السام سيُضعف مصداقيته في السنوات الثلاث الأخيرة من ولايته الرئاسية. حاول وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، يوم الجمعة تبرير الضربة العسكرية معتبراً أن "عدم القيام بشيء أمر خطير"، أقله بسبب الرسالة التي يوجهها هذا الجمود إلى الإيرانيين والكوريين الشماليين وآخرين ممن يدرسون مدى استعداد أوباما لفرض خطوط حمراء أخرى على أسلحة تُعتبر أسوأ بكثير، فبالنسبة إلى تلك البلدان، لم يتضح بعد (حتى غداة الضربات بالطائرات بلا طيار ضد الإرهابيين والاعتداءات الإلكترونية على المنشآت النووية) إذا كان الرئيس الذي انتُخب لإخراج الولايات المتحدة من الحروب مستعداً للمجازفة بتحديد خطوط حمراء وهمية.

لكن الأهداف المحدودة التي وصفها أوباما لتفسير منطق تفكيره الذي يبرر التحرك العسكري الآن (أخبر "خدمة البث العام" بأنها ضربة فاعلة لمنع أي اعتداءات كيماوية مستقبلية) تترافق مع مخاطرها الخاصة. إذا بقي الرئيس بشار الأسد بعد إطلاق وابل صواريخ "توماهوك" بأيام سالماً نسبياً، فسيتمكن من ادعاء أنه لم يواجه خصومه المحليين فحسب بل الولايات المتحدة التي اتهمها بأنها اليد السرية وراء الانتفاضة الحاصلة.

وفق كلمات مستشار بارز لأوباما ترك منصبه منذ فترة قصيرة: "أسوأ نتيجة ستكون تعزيز قوة الأسد".

كيف عَلِق أوباما في هذا الفخ؟ من جهة، كان الأمر عبارة عن مصادفة تاريخية: في أول أيام الانتفاضات العربية المشوقة، لم يراهن أحد على صمود الأسد طوال هذه الفترة في بلدٍ تشكّل فيه طائفته العلوية أقلية شعبية.

لكن يظن البعض أنّ حذر أوباما من عمليات التدخل الخارجي وضعه في هذا المأزق. على الرغم من فظاعة الاعتداء الكيماوي في 21 أغسطس، فإنه لم يكن أكثر فظاعة من الاعتداءات التقليدية التي أودت بحياة 100 ألف سوري. مقابل تلك الأحداث، بقي الرد الأميركي محدوداً: إدانات دولية، وشحنات أسلحة متفرقة لمجموعة عشوائية من الثوار، وتردد مبرَّر من جانب الرئيس الأميركي في دعم معسكر "جبهة النصرة" التابعة لتنظيم "القاعدة" في الحرب الأهلية.

لكن ها قد أدى تجاوز الخط الأحمر إلى إحراج موقف أوباما، فهو يقول إنه يريد التدخل لمنع استعمال سلاح معين كان استخدامه خلال الحرب العالمية الأولى صادماً للعالم، لكنه لا يتدخل لوقف أعمال القتل الجماعي أو لإسقاط الرجل الذي يقف وراء تلك الاعتداءات. قال بنجامين ج. رودز، نائب مستشار الأمن القومي، يوم الخميس: "هذا التحرك لا يشبه قرار بوش في عام 2003، كان ذلك التدخل يهدف إلى تغيير النظام، أما هذا التحرك فهو مُعَدّ لإعادة ترسيخ معيار دولي ضد استعمال الغازات السامة.

الفارق كبير بين الحالتين، لكن قد يتبين أن استعمال القوة على نطاق محدود هو نهج عقيم كونه يُضعف نجاح استعمال القوة العسكرية الأميركية على المدى الطويل. هذا هو الانتقاد الأساسي الذي استعمله كل من يعتبر أن الأمر الوحيد الذي يُعدّ أسوأ من تورط الولايات المتحدة في ثورة عربية أخرى لا نكاد نفهم معطياتها الداخلية هو التورط في ثورة وعدم إحداث أي فرق. أوضح إليوت كوهين، أستاذ في الدراسات الاستراتيجية في جامعة جونز هوبكينز ومؤلف كتاب "القيادة العليا" (Supreme Command) الذي يتناول العلاقة المضطربة بين الرؤساء والجيوش التي يديرونها: "وفق هذا المنطق، يمكن شن الضربة وإنهاء المهمة وإقناع أنفسنا بأننا علّمناهم درساً قاسياً". ثم أضاف كوهين الذي عمل أيضاً كمستشار لكوندوليزا رايس حين كانت وزيرة الخارجية: "أخشى أن استعمال القوة سيكون رمزياً".

لكن لا يشاركه أوباما المخاوف نفسها على ما يبدو، أو ربما لا يعبّر عنها صراحةً، فهو أخبر فريق عمله خلال اجتماعات "غرفة العمليات" حديثاً، تزامناً مع تحرك القوات البحرية والجوية الأميركية نحو شرق المتوسط، بأن أي تدخل أميركي لن يغير ميزان القوى في الحرب الأهلية السورية على المدى الطويل. هذا هو الدرس المرير المُستخلص من حربَي العراق وأفغانستان بالنسبة إلى أوباما: كل رئيس أميركي يظن أنه يستطيع تغيير طبيعة المجتمعات، عن طريق القوة أو لعب دور القدوة، سيواجه مصيره. بالنسبة إليه، إنه الخطأ القاتل الذي طبع رئاسة جورج بوش الابن، أي الاقتناع التام بأن نجاح الولايات المتحدة في هزم أي دكتاتور يعني إقدام الشعب الذي تحرر حديثاً على تحويل الأنقاض إلى بلد يعكس صورة الولايات المتحدة.

كان ذلك الرهان سيئاً في العراق وسيكون أسوأ في سورية بحسب رأي أوباما. حين برر التدخل في ليبيا لأسباب إنسانية في عام 2011، أوضح سريعاً أن الولايات المتحدة لا تستطيع التحرك لإسقاط جميع الطغاة بل الحكام الذين يمكن إسقاطهم بأقل ضرر ممكن على الأميركيين.

لكنّ سورية لا تشبه ليبيا في شيء، ولا يمكن الفوز فيها عبر حملة جوية أو ضربات صاروخية، ومن هنا جاء إصرار أوباما على ضرورة فصل أي تحرك في سورية عن الحرب الأهلية التي مزقت البلد إرباً. يفضّل الرئيس القتال على أرض ترتبط مباشرةً بالمصالح الأميركية: إنه المفهوم القائل إن استعمال أسلحة الدمار الشامل في أي صراع عادي يرفع احتمال وقوع الكارثة (بالنسبة إلى الولايات المتحدة وبالنسبة إلى حلفائها وشركائها على حدود سورية طبعاً).

من الأسهل تفسير هذه السياسة أمام الرأي العام الذي أنهكته الحرب، وتقدم تلك السياسة أصلاً طريقة كي يطبّق الرئيس نسخة من استراتيجية "البصمة الخفيفة" (استراتيجية القتال عن بُعد عبر الطائرات بلا طيار والأسلحة الإلكترونية) من دون الانغماس في كابوس جديد في الشرق الأوسط.

لكن تكمن المشكلة طبعاً في واقع أن بعض الصراعات لا تكفيها "البصمات الخفيفة". سبق أن صمد الأسد في منصبه بعد سنتين على إعلان الرئيس الأميركي ضرورة رحيله، وفي مرحلة معينة، يصعب الفصل بين استعمال الأسلحة الكيماوية والدكتاتور الذي يعتبر تلك الأسلحة الكيماوية مجرد ذخيرة إضافية في ترسانته، بحسب تصريح مسؤول استخبارات أميركي للمراسلين يوم الجمعة.

قال كريستوفر هيل، أول سفير عيّنه أوباما في العراق وعميد كلية كوربيل في جامعة دنفر راهناً: "يظن الكثيرون، حتى داخل أوساط الإدارة، أن حجة الحرب الكيماوية هي مجرد عذر للنيل من الأسد". لا شك أن الأسد نفسه مقتنع بذلك أيضاً، لذا من المستبعد أن يعيد النظر بقيمة المعاهدات الدولية.

David E. Sanger