تصورات ورؤى (2/2)
في عمل لهنري ميلر، وهو قصة قصيرة "ابتسامة عند قدم السلم" يتحدث ميلر عن مهرج حقق شهرة كبيرة ليعيد اكتشاف نفسه، يقول أوغست المهرج: "إن المهرج لا يكون سعيداً إلا إذا كان شخصاً آخر، لا أريد أن أكون سوى نفسي!" لكن الآخر لا يريد أن يفهم هذا ببساطة، وكانت هذه القصة المتفردة خرجت من لا وعي هنري ميلر بعد أن رأى وأعجب بعدد من أعمال الفنانين الكبار أحدهم خوان ميرو ولوحته "كلب ينبح في وجه القمر". إن أي عمل فني أو أدبي قد يرحل إلى المستقبل، هذا ما تقوله الرسالة، وأنا أتفق مع ما جاء فيها، لكن هذا التعاون كيف يكون وعبر من؟ الأيقونة السينمائية الروسية اندريه تاركوفسكي في كتابه المهم "النحت في الزمن" يقول التالي: "كيف يجعل الزمن نفسه محسوساً في اللقطة أنه يصبح ملموساً وحقيقياً عندما تشعر بشيء ما مهم، صادق، ذي معنى ويستمر إلى ما بعد الأحداث على الشاشة". ألم يكن تدمير التماثيل القديمة في أفغانستان أو سرقة كنوز المتاحف العراقية إبان الحرب الأميركية على العراق حدثاً خارجاً عن الشاشة؟ من هنا أرى أن كل تعاون عابر للزمن قد يحتل من قبل الأوصياء إن لم ننتبه، لقد علمنا هيراقليط أنه لا يمكن أن نستحم في النهر مرتين، إن التعاونيين المستقبليين الذين تذكرهم الرسالة هم رسل الجمال الذين لا تجدهم إلا نادراً في غابة العولمة هذه، كان نيتشه قد تعاون عبر الزمن في الذهاب مباشرة إلى بئره الخاصة المتمثلة في نظرة تواطؤ خلاق مع أشباهه، لذلك فجلال توفيق على حق بأن تعاوناً عابراً للزمن مع شخصيات كآلان روب غريبه أو بردجانوف، يمثل إشارة جوهرية، لقد شاهدت أفلام هذا الأخير في نيويورك قبل وفاته، وهي أفلام تنطوي على شاعرية وحشية، عالية تشبه الأدغال وفي الوقت نفسه تضيء حيز التاريخ والجغرافيا وتمد المتلقي النوعي بقوة عنصر الحدس، لهذا من الطبيعي في رأيي ألا يكتب الفلاسفة والكتاب عن الروايات التسلسلية الرديئة المملة، لأن هذا من شأنه أن يحطم جماليات الوعي بكينونتهم، غير أننا نعرف أن بودلير القرن التاسع عشر كتب عن أسلوب الرسام في الحياة الحديثة بذائقة سبقت زمنها، ولنأخذ مثلاً المقاربة التي اجترحها ميلان كونديرا عن فرانسيس بيكون في دراسته عن الحركة العنيفة للرسام، ذلك لأن كونديرا كان يرى في القرن العشرين مخاوف الإنسان المستقبلية التي رآها بيكون نفسه في الحربين الكونيتين: التمزق الداخلي الهائل الذي عصف بالإنسان وجعل منه مسخاً مشوّهاً ويتجلى هذا في لوحاته. وفي اعتقادي أن أعمال بيكون لم تكن بالضرورة بحاجة إلى جماليات برناسية، بل إلى واقع قاس الألم عصبه الأول، إن ما تسميه الرسالة حول التعاون العابر للزمن هو أشبه بالتنافذ الخفي بين أعمال أدبية، فنية، مسرحية، سينمائية، لأنها تلتقي أو يلتقي كُتّاب ومخرجو هذه الأعمال فوق عتبة الإبداع.