في الثمانينيات من القرن الماضي، كتبت في نشرة «نادي سينما القاهرة» مقالاً ألقي فيه باللائمة على الكاتب وحيد حامد لأن أفلامه تكرس الحل الفردي، بينما يتعاطف هو شخصياً، ومن دون مواربة أو مداراة، مع البطل الذي ينتزع حقه بيديه، ولا يخفي انحيازه إليه في مواجهة أباطرة الفساد بالسلاح الأبيض أو الرصاص إذا لزم الأمر!

Ad

كنت أعلم بالطبع أن وحيد حامد يدين في كتاباته ومن ثم أفلامه غياب القانون أو بالأحرى تغييبه لحساب فئة من صفوة القوم وعلية المجتمع، وأنه يشعر بغضب عارم تجاه ما يحدث، في ظرف زمني سياسي واجتماعي واقتصادي، من ظلم وقهر واضطهاد على أيدي «مراكز القوى»، حسبما اصطلح على تسميتهم في تلك الفترة، ومن هم على شاكلتهم في فترات أخرى، وهو ما رصده في أفلام: «طائر الليل الحزين» (1977)، «الغول» (1983)، «التخشيبة» (1984)، «الهلفوت» (1985)، «ملف في الآداب» (1985)، «البريء» (1988)، «رجل لهذا الزمان» (1986) و{الدنيا على جناح يمامة» (1988)، لكن جرعة العنف والدم بدت كبيرة وصادمة؛ خصوصاً في فيلم «الغول»، الذي انتهى بالبطل (عادل إمام) وهو ينهال بـ «الساطور» على رجل الأعمال «المستغل» (فريد شوقي)، وهي النهاية التي أثارت حفيظة الرقابة، ودفعتها إلى اتخاذ قرار بحظر عرض الفيلم، لكنها أرضت في المقابل غرور الجمهور وأشفت غليل كل من شعر بالقهر والإحباط بعد تبرئة المحكمة نجل رجل الأعمال الفاسد!

هكذا كانت قناعة وحيد حامد في تلك الفترة، التي لم يمانع خلالها في اللجوء إلى «الساطور» لانتزاع  الحق الشخصي أو تفعيل القصاص الفردي، وهي القناعة التي بدت منسجمة بدرجة كبيرة مع سنوات العنفوان البدني والسياسي التي كان يعيشها حامد آنذاك، لكنها تغيرت وتبدلت، مع تراكم تجارب وخبرات الكاتب الذي لم يتخل عن ثوريته، لكن كتاباته اتسمت بكثير من النضج، كما ظهر في أفلام: «اللعب مع الكبار» (1991)، «الإرهاب والكباب» (1992)، «كشف المستور» (1994)، «طيور الظلام» (1995)، «النوم في العسل» (1996)، «سوق المتعة» (2000)، «معالي الوزير» (2002)، «دم الغزال» (2005)، «عمارة يعقوبيان» (2006)، «الأولة في الغرام» (2007)، «الوعد» (2008) و{احكي ياشهر زاد» (2009)؛ ففي هذه الأفلام واصل حامد نهجه الصدامي في مواجهة الفاسدين وتعرية المنحرفين، لكن رؤيته اتسمت بكثير من الرصانة والعقل الراجح، حتى بدا وكأنه يملك الوثائق والمستندات التي تدين اللصوص وأباطرة الفساد، بعدما كان يكتفي بمجرد التلميح بها في أفلام المرحلة المبكرة من مسيرته، من دون أن تكون بحوزته بالفعل، وكأنه اكتفى بالتشهير!

الآن وبعد تفاقم الأوضاع في المجتمع المصري بدرجة خطيرة تُنذر بعواقب وخيمة، يبدو العنف والحل الفردي في أفلام الكاتب الكبير وحيد حامد في المرحلة الأولى من مسيرته الإبداعية، وكأنه مشهد كوميدي في فيلم حركة أو مغامرة طريفة من مغامرات «توم وجيري»؛ فالعنف الفردي أصبح جماعياً، وزاد واستفحل حتى بلغ حداً لا يُحتمل، وحرمة دم المسلم، التي قيل إنها مُقدمة على حرمة الكعبة، صارت منتهكة ورخيصة ومستباحة، والحل الفردي، وانتزاع الحق بالذراع، أصبح سلاح القُصر والسذج والمغرر بهم والبلطجية على حد سواء!

ساد «قانون الغاب» بالمعنى الحقيقي للكلمة، وغاب القانون الحقيقي، وتراجعت هيبته، كما تراجعت ألوان الثقافة وأشكال التحضر كافة إلا «ثقافة العنف» و{سفك الدماء»، نتيجة انتشار الفتاوى الدينية الجاهلة، والدعاوى المتخلفة التي عجلت بذيوع ظاهرة التطرف، وأدت إلى ظهور مناخ تعددت فيه الاتهامات بالتكفير، وتسابق كل فصيل إلى إقصاء الآخر.

عود على بدء، وبالنظر إلى ما قدمه وحيد حامد نُدرك أن البطل الفرد الذي انحاز إليه في أفلامه لم يكن بالسوء الذي تصورناه، بل كان خطوة في طريق التغيير ومواجهة الفساد ورفع الظلم، وكانت أفلامه بمثابة دعوة تحريضية ورسالة تنويرية ودرس تثويري ومنبر حماسي بث في الناس شجاعة قادتهم إلى الغضب على الفساد والفاسدين، وأماط اللثام عن أشكال الجهالة والشرور والمتاجرة بالدين، بدليل أن نهاية فيلمه «النوم في العسل» التي قاد فيها «البطل» المواطنين إلى تسجيل اعتراضهم واستنكارهم صارخين ومتوجعين: «آه» صارت «أيقونة» الثورة المصرية، والشعار الذي لجأ إليه المتظاهرون والمحتجون. أما الخارجون عن القانون و{البلطجية»، الذين استباحوا الأعراض واستحلوا النهب والسرقة والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة فهم ليسوا أبطال وحيد حامد، ولا علاقة لهم بإبداعه، وإنما هم «طيور الظلام» الذين أشار إليهم في أشهر أفلامه وأهمها!