حكم العباد في أي بلاد كانت، شرقاً أو غرباً، شمالاً أو جنوباً، لا يمكن إلا بطريقتين لا ثالث لهما، إما بالطريقة الاستبدادية الدكتاتورية المطلقة، وإما بالطريقة التعددية الديمقراطية الكاملة، وأما التنويعات السياسية الواقعة ما بين هذين النموذجين النقيضين فليست سوى ضرب من العبث لا يقود في الأغلب الأعم إلا إلى حالة من الفوضى والضياع والتوهان، سينتهي، ولو طال أمده، إلى الفشل والإخفاق.

Ad

وأما تلك النماذج البسيطة المختلفة التي يمكن أن يستند إليها كأمثلة، فهي الشذوذ الشهير الذي يثبت القاعدة، وهي كذلك نماذج أؤمن تماماً أن صمودها واستمرارها في وجه القاعدة العامة إنما هو نتيجة لظروف خاصة ساهمت في إطالة عمرها فحسب، وسرعان ما ستؤول إلى اتباع القاعدة عند تغير الظروف واحتدام التحديات.

وللتنويه، ليس بالضرورة أن يكون الحكم الاستبدادي الدكتاتوري ظالماً فاسداً دائماً وعلى طول الخط، فقد يكون حكما استبدادياً دكتاتورياً ولكنه في ذات الوقت عادل وغير فاسد بشكل عام، كبعض دول النمور الآسيوية.

والكويت، وهي مرادي، مثال على ما أقول، فمنذ ولادة الدستور في عام ١٩٦٢ وهي واقعة في موقع وسط متأرجح ما بين الدكتاتورية العارية الصلعاء والديمقراطية الحقيقية المكتملة، ازداد تأرجحاً وانحداراً عبر العقود الثلاثة الأخيرة وعند مفاصل سياسية مختلفة، منها حوادث تزوير الانتخابات البرلمانية لعدة مرات على يد السلطة، ومنها حل البرلمان حلاً غير دستوري في منتصف الثمانينيات، ومنها إنشاء المجلس الوطني بعيداً عن الدستور، ومنها العبث المستمر بشكل الدوائر الانتخابية، واللعب السياسي السلطوي الممنهج على أوتار الفئات والطوائف المجتمعية المختلفة، انتهاءً بمجلس الصوت الواحد.

وبالرغم من إرادة السلطة الدائمة، ولو زعمت غير ذلك، لسحب أسلوب حكم وإدارة الدولة ناحية الانفراد المطلق، مع المحافظة طبعاً على هيئة خارجية ورداء سطحي من الممارسة الديمقراطية والمؤسساتية، إلا أن ميكانيزمات الفساد كانت تتمرد دائماً على هذه التمثيلية، حيث قفزت إلى خارج النص بشكل فاقع غير محسوب العواقب لمرات عديدة مما كان يثير زوابع وأعاصير وأحيانا عواصف من النقمة والغضب الشعبي، إلا أن هذا جميعه سرعان ما كان يخمد إثر معالجات سلطوية كانت تأتي للتهدئة، تراوحت بين منحة الألف دينار لكل مواطن والتموين لمدة عام بكراتين الدجاج والأرز والمعكرونة، أو على وقع إشعال حرائق الفتن المجتمعية، الطائفية غالباً، لصرف الانتباه الشعبي إلى نواح أخرى.

هذا الواقع "الديموكتاتوري" الذي كان مكشوفاً لحكماء القوم سابقا، صار مكشوفاً للعموم اليوم وذلك مع تشابك الظروف والملابسات، فأطراف الفساد صارت معنية فقط بتنفيذ أجنداتها وغير آبهة بالالتزام بالتغريد داخل السرب السلطوي، والسلطة من ناحيتها لم تعد قادرة بأي حال من الأحوال على السيطرة على الأمور بالمطلق، خصوصاً مع تغير الشكل السياسي في العالم بأسره نحو المزيد من الانفتاح والديمقراطية، والحراك الشعبي صار رافضاً للعودة إلى أي شكل سياسي هجين يمكن تقديمه أو القبول به سلطوياً خصوصاً في ظل ما تعرض له من بطش وقمع على يد السلطة مؤخراً.

خلاصة القول أنه ليس أمام الكويت الآن سوى الاتجاه نحو الديمقراطية الكاملة، فالاتجاه نحو الدكتاتورية المطلقة بات أمراً مستحيلاً، ومحاولة التملص والبقاء في ظلال النظام الوسيط قد بات متعذراً، وفاتت فرصته التي سنحت لمرات متعددة في السابق. وبطبيعة الحال لن يكون الوصول إلى الديمقراطية الكاملة إلا عبر مخاض أليمٍ عسيرٍ دامٍ، ليس بيد أحد أن يجنبنا إياه. الطرف الوحيد الذي يمكنه ذلك فيعفي البلاد والعباد من هذا الألم ويختصر من عمر المعاناة سنوات ثمينة، إن هو أدرك هذه الحقيقة قبل فوات فرصتها وأراد ذلك حقاً، هو السلطة، فهل تراها تفعل؟!