عباس كياروستامي المدهش يتعامل مع السينما بوصفها شعراً، وهو لطالما اعتبر أن السينما التي تدوم لفترة أطول هي السينما الشعرية لا السينما التي تروي قصصاً فحسب، فالقصة تقرأ ويفهم مغزاها، أما القصائد فيمكن تأويلها في أكثر من اتجاه.

Ad

كياروستامي الفاتن، لم يكتف أن يكون سينمائياً ومصوراً، بل آثر ان يكون رساماً أيضاً، وشاعراً، اذ ترجمت له إلى العربية ثلاث مجموعات شعرية هي: «مع الريح» الصادرة عن منشورات «دار الكتاب»، «ذئب متربص» عن وزارة الثقافة السورية، و{غزليات حافظ الشيرازي برواية عباس كياروستامي» عن دار «المدى».

على نفس طريقته المتقشفة في صناعة أفلامه، يمضي كياروستامي في كتابته للشعر بعيداً من الحشو مليئاً بالاختزال. في ديوانه {مع الريح}، وعلى رغم بساطة شعره، نلاحظ أنه استمرار طبيعي مكمل لطريقة عمله في المجال السينمائي، ويمكن أن يكون شبيهاً بالخسروانيات (الشعر الفارسي قبل الإسلام) من ناحية الشكل، وبشطحات الصوفيين لناحية المضمون. لكنه يحاكي الأرض وحكايتها لا السماء وغيبها، كما يستنتج بعض النقاد. كثيرون يشبهونه بـ{الهايكو} الياباني الذي يرصد الحياة، الرصد الخالص، والصافي، والدقيق، والمتحد مع موضوعه. وهذا (الهايكو) النموذج الخاص من الشعر بالنسبة إلى المخرج الراحل أندره تاركوفسكي أقرب إلى حقيقة السينما، مع فرق أن النثر، والشعر يستخدمان الكلمات تحديداً، بينما الفيلم يولد من رصد مباشر للحياة. لا يرصد كياروستامي الحياة فحسب، بل مراياها المقعرة بالتأويلات والرموز والألغاز التي تحيط بها: {تبرعمت/ ازهرت/ ذبلت/ سقطت/ ولم يرها أحد}.

هكذا شعر كياروستامي ابن الادب والسينما والصورة وهو ابن الأرض وحكاية الحياة فيها (...)، كما يقول مرتضى كاخي في مقدمة {مع الريح}، فالأرض يتجسد فيها الحضور والغياب، والمصير السيزيفي للعابرين فيها، فالزهرة التي تبرعمت تشبه حياة البشر، أو البشر يشبهون تلك الزهرة.

قصائد كياروستامي {أفلام قصيرة}، تحاكي الوجود ودورة الحياة وعبورها:

 الريح

تفتح

 الباب العتيق

عشرات المرات

 والباب العتيق يئن...

 يكتب محاكاة عن الطبيعة والأشياء العابرة لا تنفصل عن محاكاة الذات وأحوالها: {لقد اتيت مع الريح...}، والآتي مع الريح يذهب معها، ولا يترك أثراً ربما، في أن يكون محكوما بالعزلة:

اتي وحيداً، اشرب وحيداً

 أضحك وحيداً

 أبكي وحيداً

 أذهب وحيداً

ذئب متربص

في مجموعته «ذئب متربص»، صدرت عن وزارة الثقافة السورية بترجمة ماهر جمو، نقرأ في التقديم: «لا يقف كياروستامي عند حدّ إبداعي واحد. الصورة وحدها، بالنسبة إليه، لا تكفي. يرى في الكتابة الشعرية والألوان واللوحة امتداداً طبيعياً لمغامراته الفنية. يُدخل الكتابة والألوان واللوحة في لغة الصورة السينمائية أحياناً، فتتشكّل خلاصة أولى للمعاني الإنسانية المطلوبة».   

الفاصل التقني بين كاميرا الفوتوغراف والسينما، لم يمنع كياروستامي من الاحتفال بالمستوى الساحر نفسه من اللقطات الفوتوغرافية المجتزأة من مشاهد متحركة، لكن شعراً هذه المرة. يقول:

 في مسقط رأسي

لم يعرفني حلاق طفولتي

وقص شعري

بلا عناية

عبثًأ ألقيت السلام عليه

لم يوح جوابه

أنه عرفني

يكتب كياروستامي صورة شعرية مكثفة يخضعها لسلطة الكاميرا: {فتاة يافعة، تعبر خلل حقل الخس، رائحة جوز طازج تفوح}.

أما كتابه {غزليات حافظ شيرازي} فهو ليس نصّاً عن الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، بل عبارة عن طريقة مغايرة للمألوف في قراءة أشعار حافظ، إذ إن كياروستامي انتقى

أشطراً معينة مقطّعاً إياها بما {يُبعد الكلمات عن الإيقاع والموسيقى}، وعن أشكالها التي كانت عليها سابقاً. الكتاب ترجمه عن الفارسية ماهر جمو، وقال عنه: {يسعى (الكتاب) إلى محو الهالة الأسطورية الضبابية عن حافظ وتقديمه على أنه كائن أرضي أولا ، وهو يحاول الكشف عن الحكم التي تزخر بها هذه الأشعار وتقطيعها بشكل يمنحها البريق الذي تستحق والذي يرى كياروستامي أنها كانت قد حرمت منه ضمن الديوان الأصلي لحافظ بفعل الموسيقى والقافية}.

يقدم كياروستامي كتابه إلى القارئ الإيراني المعاصر ليقرأ بطريقة مختلفة كل الاختلاف عن الطرق المألوفة في قراءة الشعر الكلاسيكي الفارسي، متسلحاً بمقولة رامبو الشهيرة: «ينبغي أن نكون حداثيين بشكل مطلق» التي تصدرت مطلع الكتاب.