بعد سنوات طويلة من تأجيل التدابير الحتمية بضرورة إجراء خفض للعملة الفنزويلة، قدمت حكومة فنزويلا تنازلاً متواضعاً الى الأوساط الاقتصادية في مطلع الشهر الجاري عبر خفض قيمة عملتها الوطنية التي تعرف بـ"البوليفار القوي"، وذلك بنسبة بلغت 32 في المئة. وفيما يعد التخفيض السابع للعملة الوطنية في عهد الرئيس هوغو تشافيز، فقد تراجع السعر الرسمي لها من 4.3 بوليفار في مقابل الدولار إلى 6.3 بوليفار مقابل الدولار.

Ad

ومنذ أن تولى تشافيز السلطة سنة 1999 ارتفع سعر صرف الدولار مقابل البوليفار أكثر من 10 أضعاف، وذلك على الرغم من أن المعدل الجديد لايزال أقوى حوالي ثلاثة أمثال من قيمة العملة في السوق السوداء.

وقد يكون انهيار البوليفار المؤشر الإحصائي الأشد قوة للدلالة على سوء إدارة الرئيس الفنزويلي تشافيز على الصعيد الاقتصادي، وتسببت خطواته المتلاحقة في مصادرة الملكية للمصلحة العامة من دون تعويض عادل في تكبيد القطاع الخاص في فنزويلا خسائر كبيرة، كما أن تحويله شركة PDVSA النفطية المملوكة للدولة والمعروفة "بي دي في إس إي" إلى أداة من أدوات المحسوبية والمحاباة للموالين له، أفضى إلى هبوط إنتاج البلاد من النفط الخام. ورغم ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية بصورة كبيرة خلال فترة رئاسة تشافيز، فإن فنزويلا أصبحت تعتمد بصورة مطردة على الاستيراد.

في عام 2003، حاولت الحكومة الفنزويلة الحد من هروب رؤوس الأموال إلى الخارج بفرض تدابير رقابية مشددة على أسواق تداول العملات. غير أن المواطنين ورجال الأعمال واجهوا نقصاً في كمية الأموال التي يحتاجون إليها من العملة الأجنبية المقومة بالسعر الرسمي المدعوم بقوة، وفي الوقت ذاته حقق المقربون من النظام ثروات طائلة عبر استغلال تلك الأوضاع. وقد اضطر العديد من أبناء فنزويلا إلى اللجوء الى السوق السوداء المنتعشة لتدبير احتياجاتهم من النقد الأجنبي حيث يتم تداول البوليفار بأقل من قيمته الرسمية، وقد أفضت هذه القيود إلى نقص متزايد في السلع الأساسية.

وردت الحكومة على الهبوط الحاد في قيمة البوليفار في السوق السوداء بسلسلة من التخفيضات الرسمية للعملة الوطنية وتشديد أقوى للرقابة ما خفف الأعباء عن المصدرين وزاد من القوة الشرائية المحلية لمبيعات النفط، المصدر الرئيسي للدخل في فنزويلا. غير أن ذلك أفضى، على أي حال، إلى حدوث قفزات قصيرة الأجل في معدلات التضخم.

وخلال الأشهر القليلة الماضية تعرضت الحكومة إلى مزيد من الضغوط من أجل إجراء خفض جديد في قيمة العملة الوطنية، واختفى العديد من السلع والبضائع الأساسية من الأسواق المركزية، كما أن ندرة الأغذية وصلت إلى أعلى مستوياتها في السنوات الخمس الأخيرة. وعلى مدى الشهرين الماضيين، ارتفعت أسعار المواد الغذائية أكثر من 11 في المئة ما تسبب في تفاقم معاناة الفقراء الذين يمثلون الشريحة الرئيسية المؤيدة للحكومة. وفي ظل مواصلة البنك المركزي الفنزويلي لسياساته الرامية لتوفير الدولار بالسعر الرسمي وتنامي الطلب عليه في السوق السوداء، مني البوليفار بتراجع حاد وفقد حوالي نصف قيمته خلال الأشهر الستة الماضية.

علاوة على ذلك، أطلق الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز العام الماضي حمى انفاق واسعة النطاق على دعم الأغذية والبرامج الاجتماعية الموجهة للفقراء، بهدف تحقيق مزيد من الشعبية والدعم لإعادة انتخابه مجدداً. وقد تجاوز معدل النمو الاقتصادي المحفز في البلاد 5 في المئة، غير أن عجز الموازنة قفز بصورة حادة. ويبدو الحزب الاشتراكي المتحد بحاجة إلى مزيد من الأموال التي يبذرها على قواعده الانتخابية مع اقتراب موعد حملة الانتخابات الرئاسية الجديدة.

وكان الرئيس تشافيز أمضى الشهرين الماضيين في العاصمة الكوبية هافانا لتلقي العلاج لما يعتقد أنه يعاني من مرض السرطان في مراحل متأخرة، إلا أن طبيعة مرضه لاتزال سرية. وفي حال وفاة تشافير يقضي الدستور الفنزويلي بإجراء انتخابات رئاسية في غضون شهر، ويعتقد أن نائبه نيكولاس مادورو الذي اختاره شافيز لخلافته يفتقر إلى الكاريزما والقدرة، فيما يتوقع أن يلاقي أوقاتا صعبة أمام المعارضة المنتشرة في البلاد.

أيا كان من سيخلف هوغو تشافيز، فإنه سيواجه اختبارا اقتصاديا مريراً وقاسياً، فالناتج المحلي الإجمالي يتوقع أن يعاني الركود في عام 2013، فيما تواصل معدلات التضخم صعودها المستمر. وحتى مع انتفاع كثير من المصدرين الفنزويليين من انخفاض قيمة العملة الوطنية "بوليفار" نسبياً ومن احتفاظهم بحصة أكبر من عائدات العملات الأجنبية مقومة بالدولار الأميركي، فإن الحكومة تواصل إحباط جهودهم وتقليص مكاسبهم بمزيد من التدابير والمحظورات التي تفرضها عليهم.

كما يتوقع أن يعاني "البوليفار" مزيداً من الضغوط الشديدة في ضوء إعلان الحكومة عزمها وقف النظام المعمول به لاقتراض الدولارات من الخارج من أجل إعادة طرحه في الأسواق المحلية بسعر أعلى نسبياً من السعر الرسمي المطبق حالياً وذلك بالنسبة الى السلع والخدمات الكمالية غير الأساسية.

وقد حرصت السلطات الفنزويلية على التأكيد أنها ليست بصدد إجراء أي تغييرات جوهرية جديدة على سياساتها النقدية في غضون الفترات المقبلة وأن الخفض المعلن عنه لعملتها الوطنية -وهو الإجراء الذي قاومته ونفته طويلاً في الأشهر الأخيرة- هو التغيير الأخير. غير أن من المرجح في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، أن تشهد البلاد تعديلات أخرى في سياساتها مستقبلاً بغض النظر عمن يقود دفة البلاد!