تركيا... والديمقراطية العلمانية الليبرالية
جاءت الاحتجاجات الشعبية في تركيا، والتي جوبهت بقمع الحكومة لها بشكل عنيف ووحشي، مفاجأة وصدمة لمن ينظر للنموذج التركي على أنه نموذج ناجح ومبهر، لاسيما أن تركيا تمر بأزهى مراحلها الاقتصادية. إلا أن الصدمة الكبرى هي تعامل أردوغان مع تلك الاحتجاجات بنفس الطريقة التي تعاملت معها دول ثورات "الربيع العربي"، بل جاء خطابه مشابهاً لأنظمتها الدكتاتورية ليصف المحتجين بالرعاع والمخمورين والمتآمرين، كما هدد بنزول مؤيديه إلى الشوارع رداً على معارضيه.لم يكن احتجاج النشطاء البيئيين لقطع الأشجار في ساحة "تقسيم" إلا الشرارة التي فجّرت الأزمة، وهي أزمة متعددة الجوانب يراها البعض صراعاً هوياتياً يسعى من خلاله حزب أردوغان إلى أسلمة الدولة، مما شكل تهديداً للهوية الأتاتوركية العلمانية، ويراها آخرون صراعاً سياسياً مع الحرس القديم الذي تم تقزيمه وهم "العسكر" حراس الهوية الأتاتوركية، كما يراها آخرون موالون للحكومة أنها مجرد احتجاجات للنشطاء البيئيين، تم استغلالها من قبل الخصوم السياسيين. إلا أن الأقليات التي عبّرت عن معارضتها ورفضها لسياسات الحزب الذي يفرض وصاياه وينتهك الحريات العامة، تعتبرها صراعاً حقوقياً رافضة ممارسات الحكومة السلطوية في سجن الصحافيين وقمع حرية التعبير، وهو صراع من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فلا ديمقراطية دون عدالة اجتماعية واحترام حقوق الأقليات. كل تلك الأمور تدل على أن ديمقراطية الصناديق وديمقراطية الاستقواء والغلبة في تركيا بحاجة إلى التحديث والتطوير. إلا أن سياسة أردوغان القمعية في مواجهة الاحتجاجات ضاعفت الأزمة وأجّجت الغضب الشعبي، بدلاً من احتواء المعارضين والمحتجين بشكل ديمقراطي حضاري.
وفي دولنا وعالمنا القديم، يبدو الاصطفاف واضحاً بين الإسلاميين العرب المدافعين عن حزب أردوغان "الإسلامي"، والعلمانيين العرب المدافعين عن "العلمانيين" من الحرس التركي القديم. إلا أن المسألة ليست أبيض أو أسود، فحزب أردوغان (التنمية والعدالة) يختلف في المعنى والمبنى عن أحزابنا الإسلامية، ذلك أنه كان دائماً يعلن صراحة إيمانه بالعلمانية، تجلّى ذلك في دعوة أردوغان المصريين إلى الأخذ بمبادئ العلمانية، التي حسب وصفه "تقف على مسافة واحدة من كل الأديان، وتكفل لكل فرد ممارسة دينه". كما أن الجيش الذي أسسه أتاتورك كحارس للعلمانية، لم يعرف تاريخه سوى الاستبداد واضطهاد الأقليات وحقوق الإنسان، وكان سبباً في إجهاض وعرقلة المسيرة الديمقراطية. نعم جاء حزب أردوغان "الإسلامي" ليطرح قيماً أكثر ليبرالية من العسكر "العلماني"، واستطاع الحزب لفترات احتواء فئات مختلفة حتى من العلمانيين والليبراليين كردة فعل على استبداد وطغيان العسكر، وتدخلهم في الحكم المدني وقمعهم للحريات، الأمر الذي ساهم في نجاح الحزب. إلا أن اليوم يبدو أن الغرور قد تملك أردوغان وحزبه، وبات لا يختلف في سلطويته وتسلطه عن الحرس القديم.المشكلة هنا ليست في ما يمثله الطرفان المتنازعان، بل في اختلال معادلة أسس التقدم التي أثبتت نجاحها على أرض الواقع في كثير من الدول الأوروبية، وهي النماذج الأكثر تقدماً في العالم اليوم بعدما أثبتت الأيديولوجيات الحتمية المغلقة عقمها وعجزها وتفاهتها... وهي النماذج التي طبقت الديمقراطية العلمانية الليبرالية الاجتماعية المعنية بالحريات والعدالة الاجتماعية، فهي المعادلة التي لا تقبل التجزئة، وغياب إحداها يحدث شرخاً وصدعاً واختلالاً في الأمن الإنساني والاجتماعي والسياسي، فالعلمانية دون ديمقراطية ليبرالية تصبح علمانية مستبدة، والديمقراطية دون علمانية لا تنحاز فيها الدولة إلى دين أو طائفة تصبح دولة دينية أو طائفية لا يتساوى فيها المواطنون جميعاً أمام القانون، وديمقراطية دون قيم الليبرالية من حريات وتعددية وتسامح تصبح دكتاتورية الأغلبية التي لا تحترم فيها حريات وحقوق الإنسان والأقليات، وديمقراطية ليبرالية دون قيم العدالة الاجتماعية لن تحقق الاستقرار والأمن الإنساني. ولنا في تاريخ الشعوب عبرة ودروس من دم ودموع.فكم ستدفع تلك الشعوب المنتفضة من أجل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ثمناً لتلك الدروس؟