رسالة باكية من امرأة لم توقعها باسمها الحقيقي ولكنها اكتفت بالأحرف الأولى من اسمها.. الرسالة نشرتها إحدى الصحف في باب متخصص بالقصص الإنسانية وردود المتخصصين عليها! ولم تكن صاحبة الرسالة ولا الصحيفة تتوقعان ما سيحدث بعد النشر في مفاجآت كانت أشبه بزلزال أصاب امرأة!

Ad

الرسالة كانت تقول بالحرف والنص:

{سيدي... أنا سيدة لا أتبرأ من بدايات حياتي... ولا مما شهدته هذه البدايات من أحداث كانت بمثابة محطة انطلاق واحدة من أسوأ الرحلات في حياة إنسانة ضعيفة استهلت طفولتها وصباها بلقب الخادمة! واقترن شبابها بلقب الراقصة. وأخيراً أسعدني أن يكون الفصل الأخير من حياتي مع اللقب الذي منحه لي الناس والمقربون مني... وهو لقب {المُحجَّبة}! ولتسمحوا لي أن أسرد عليكم بعض من تفاصيل هذه الحياة التي أصبحت الآن تتوقف على فتوى شرعية أنتظرها منكم بفارغ الصبر على أحر من الجمر!

كنا نعيش في إحدى قرى الغربية... وبسبب الفقر اضطر أهلي إلى إخراجي من المدرسة وأنا في سن العاشرة. اصطحبني أبي إلى القاهرة بعدما استدان ثمن تذكرة القطار... وهناك ذهب بي للعمل خادمة في منزل سيدة تشغل وظيفة مدير عام في إحدى المؤسسات الكبرى اسمها مدام ناني، أرملة على خلق رفيع وكرم بلا حدود... طيبة القلب وحسنة النوايا، تربى طفلين يتيمين هما أحمد في السنة الأولى الإعدادي، ونسمة في الشهادة الإعدادية. وعلى رغم الخوف الكبير الذي كان يملأ قلبي من أنني سأبتعد عن أبي وأمي وأعيش مع ناس أغراب، فإن المفاجأة التي لم أتوقعها كانت موقف هذه السيدة الكريمة مني والعطف الرائع الذي أحاطتني به حينما اعتبرتني الابنة الثالثة لها. كانت تطعمني من طعامهم وتشتري لي الكساء مع أحمد ونسمة من دون تفرقة. والغريب أنهم كانوا إذا خرجوا للنزهة في الملاهي كانت السيدة ناني تسمح لي بأن أشاركهم النزهة وأتمتع بجميع اللعبات التي تشترك فيها نسمة وأحمد! لكن أعظم ما فكرت فيه هذه السيدة كان قرارها بأن تمنح راتبي لأبي تتعيش منه أسرتي. وتدخر لي أول كل شهر مرتباً آخر تحتفظ به في دفتر توفير باسمي بهدف تأمين مستقبلي حينما أبلغ سن الشباب!

مضت سنوات... كنت أشعر أن القدر أهداني هذه السيدة لتجعل حياتي جنة فوق الأرض. إنها نوع من البشر ربما صار الآن عملة نادرة... لا أنسى أبداً أنها كانت تذكرني بين الحين والآخر بألا أحمل هماً ولا أفكر في المستقبل لأنها سوف تتكلف بزواجي وجهازي حينما يحين الوقت المناسب... ولم أكن أجد رداً على مواقف هذه الإنسانة العظيمة سوى البكاء... فالكلام لا يكفي للتعبير!

... ولأن جنة الأرض عمرها قصير، كان لا بد من أن يجيء يوم تكشر فيه الدنيا عن أنيابها... ومتى؟! يوم عيد ميلادي الذي أتممت فيه عامي التاسع عشر. لم أكن أعلم أن الحياة يومان، يوم لك ويوم عليك... وأن اليوم الذي كان لي ذهب، وتنكر لي، ماتت السيدة ناني وتغيرت حياتي مئة وثمانين درجة. وطمأنتني نسمة حينما أخبرتني أن أمها أوصتها بي خيراً وهي تحتضر ومنحتها دفتر التوفير الخاص بي... لكن قلبي ظل منقبضاً وأصابني قلق وتوتر كبيران. صار في حياتي سر لا أستطيع البوح به لأحد بعدما ماتت السيدة التي كنت أفضي إليها بكل كبيرة وصغيرة! قبل مرور عام على وفاة أمه فوجئت بأحمد يلتهمني بنظراته ويخصني بإيحاءاته وشعرت أنه يتحين فرصة الانفراد بي! وذات ليلة وقع المحظور... كنت أغط في نوم عميق في حجرتي الصغيرة المجاورة للمطبخ، وعلى رغم أني كنت أوصد الحجرة جيداً فقد صحوت مذعورة على يد تعبث بجسدي ويد أخرى تكمم فمي لمنعي من الصراخ. ومن ضوء خافت يتسرب من أسفل باب الحجرة تأملت وجه الذئب فإذا به أحمد. دفعته بكل قوتي وصرخت بأعلى صوتي وأسرعت إلى دولابي الصغير بحثاً عن رداء يسترني أكثر من قميص النوم الشفاف والقصير الذي كنت أهرب به من حرارة الجو. لكن الذئب منعني من ستر جسدي. ظللت أصرخ من تحرشه بي حتى سمع الجيران صوتي واستيقظت نسمة. فوجئت بالذئب يدعي أنني كنت أطارحه الغرام والحب الساخن منذ عام... وأنه رسب في الجامعة بسبب هذا الغرام الملتهب، وأنني الليلة منعت نفسي عنه لأني استعد للزواج من شاب أحبه! كانت هذه كلها أكاذيب وتُهم ملفقة... وهكذا عشت أول موقف أتعرض فيه للظلم ولا أجد سلاحاً أدافع به عن نفسي سوى الدموع. كثيرون صدقوا الظالم لأنه السيد وكذبوني لمجرد أنني شغالة. وآخرون نصحوا نسمة بألا تضع البنزين إلى جوار النار... والبيت الذي يسكنه شاب لا يجب أن تكون فيه شغالة مكتملة الأنوثة، صارخة الجمال. ويبدو أن نسمة اقتنعت بهذا الرأي فقررت إنهاء خدمتي بكل أدب ومنحتني دفتر التوفير، واعتذرت لي وهي تطلب مني حمل أشيائي والبحث عن مكان آخر لأنها على رغم تعاطفها معي لا تستطيع أن تخسر أخاها... ولا يمكنها أن تتركني معه في بيت واحد. شكرتها وحزمت حقائبي وغادرت البيت الذي فيه أجمل ذكرياتي وأكثرها مرارة... نزلت السلم وكأني أودع كل طوب في جدار هذا المنزل. قررت ودموعي تنساب فوق خدي أن أرجع إلى قريتي وأعيش مع أهلي الفقراء... لكن مفاجأة جديدة كانت في انتظاري أمام المنزل، شاب رياضي مفتول العضلات يناديني ويقترب مني. إنه عمرو ابن عم خميس المكوجي. لا أعرف عنه أكثر من اسمه وأنه ينام ساعات النهار ويختفي ساعات الليل! أخبرني عمرو أنه سمع بحكايتي مع الذئب طالب الجامعة الفاشل، وأبلغني أن والده حينما علم بطردي قرر أن يمنحني حجرة في منزله. وبالفعل اصطحبني عمرو إلى والده الذي كان هو أيضاً رجلاً كريماً ومحباً للخير. أخبرني الرجل أنه سيوفر لي عملاً مناسباً خلال أيام قليلة، وأمرني بالصعود إلى حجرتي الخالية وأن أعتبر نفسي ابنة له. ومنذ الليلة الأولى أحاطني عمرو باهتمام كبير. كان قبل أن يذهب إلى عمله الغامض يصعد إلى حجرتي ومعه طعام العشاء الفاخر. وحينما يعود في الصباح يوقظني وفي يده طعام الإفطار. ذات صباح دعوته ليتناول إفطاره معي وأخبرته بأن أبيه سيلحقني بالعمل في فيللا أسرة ثرية، لكني فوجئت به يقاطعني:

شغالة تاني؟! انت مش حاسة بقيمة نفسك... ولا بجمالك. أنت أجمل من أي ست شافتها عيني.

كانت سعادتي لا توصف وأنا أسمع هذا الإطراء لأول مرة في حياتي، بل فجر عمرو مفاجآته المدوية حينما همس لي:

أنت لازم تكوني هانم. الحياة فرصة يا راحت... يا جت!

ويبدو أن عمرو لاحظ ذهولي ودهشتي وبريق عيني، فراح ينصحني بأن أسلمه نفسي ليتولى صناعة نجوميتي. صارحني بأنه يعمل طبالاً في إحدى الفرق وأن فرصتي هائلة لأكون من راقصات الصف الأول. وذكر أمامي أسماء ثلاث راقصات بدأت كل منهن حياتها شغالة في البيوت. اقترح أن يلحقني على نفقته بمعهد تدريب الراقصات الذي يديره أحد أصحاب الملاهي الليلية. وأعترف أنه نجح في إقناعي وألهب حماستي... ولأنه يعرف أن والده سيرفض هذه المهنة أقنعه بأنه حصل لي على وظيفة إدارية في الفرقة التي يعمل بها. هكذا تتحول حياتي مرة أخرى مئة وثمانين درجة... تخرجت في معهد الرقص وقدمني صاحب الملهى كوجه جديد... لكن سرعان ما خطفت الأضواء من معظم الراقصات في علب الليل. طاردتني العقود وأصبحت محجوزة في معظم الحفلات العامة والخاصة والأفراح وبعض المشاهد في الأفلام السينمائية... توسعت علاقاتي وامتلأت أجندة تلفوناتي بأرقام مسؤولين ونجوم... وكان طبيعياً أن أتزوج عمرو وأن أصبح لأول مرة مالكة لمئات الألوف من الجنيهات.

 نجحت في أن أجعل من نفس المرأة التي يحلم بها كل رجل من دون أن يمتلكها غير رجل واحد. لكن ها هي الحياة نفسها التي لا أمان لها... ذات ليلة أخرى أصابني تسمم لم أعرف مصدره... نقلوني إلى المستشفى في حالة خطيرة.. وفيما يشبه المعجزة نجح الأطباء في إنقاذي!

ظللت شهراً كاملاً معتكفة في بيتي بعدما شاهدت الموت بعيني... منحني الله فرصة عمري عندما ترامى إلى سمعي صوت المقرئ يتلو سورة مريم على شاشة التلفزيون... انهمرت دموعي... نظرت إلى السماء كأني ألتمس من الله عفواً. لقد علمتني السيدة ناني وأنا صغيرة كيف أصلي وأصوم. شعرت بحنين جارف إلى سجادة الصلاة. لم أتردد في الوضوء... صليت ودعوت الله بالمغفرة والتوبة. ومن دون أن أخبر زوجي نزلت واشتريت الحجاب والملابس المحتشمة وكتب الفقه. كنت في غاية السعادة لأن الله وهبني هذه الهداية... لكن عمرو أصابته صدمة حينما صارحته باعتزالي الرقص... هاج وماج... ثار وغضب وتأزمت علاقتنا. كنت أراه شيطاناً ويراني مجنونة بلا عقل. ذهبت إلى المحكمة وخلعته ولم أعبأ بتهديداته. وأكرمني الله حينما جاءني رجل أعمال شهير علم بقصة هدايتي فقرر تعييني مديرة لدار الحضانة التي أنشأها وملحق بها قسم للأيتام. الآن ليس عندي سوى مشكلة واحدة وهي رصيدي الكبير في البنك... ماذا أفعل به وقد تكسبته من الرقص وهز البطن... فهل يجوز لي أن أتمتع به أم أنه مال حرام. وفي هذه الحالة كيف اتصرف فيه؟

س. ع. ل العجوزة

انتهت الرسالة... ونشرتها الصحيفة!

قرأت الراقصة المعتزلة الرسالة، وتوقفت طويلاً أمام الرد على تلك الرسالة. وجاء فيه:

سيدتي...

هذه مسألة شرعية لا يفيد فيها رأي أو اجتهاد ما دام أن كبار الأئمة تناولوها، فقد ذهب عدد كبير منهم ومن الفقهاء في باب المال الحرام إلى أنه لا يجوز التبرع به لوجه الله لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، بينما ذهب العلامة الكبير ابن تيمية – على رغم تشدده – إلى أن الكافر الذي يدخل الإسلام يحق له أن يتمتع بماله ولو كان تكسبه من حرام... فالإسلام يجب ما قبله. وبالتالي إذا حرمنا المسلم من أن يستمتع بماله بعد التوبة النصوح نكون قد جعلنا المسلم التائب في مرتبة أقل من الكافر الذي يدخل الإسلام... وبالتالي يحق للمسلم التائب أن يستمتع بمال تكسبه قبل التوبة ما دام لم يكن به حقوق للعباد.

سيدتي... هنا اجتهاد واستفتي قلبك وقلب المؤمن دليله.

ملقاة في الشارع

الليلة التالية للنشر وقع حادث مروع!

طرقات غريبة على باب الراقصة المعتزلة. فتحت وهي مطمئنة ظناً منها أن البواب أتى إليها بكارت الشحن. فوجئت بثلاثة ملثمين أسرعوا بتقييدها وتكميم فمها... وتحت تهديد السلام الناري اقتادوها إلى خارج العمارة، ثم إلى داخل سيارة بلا لوحات... وعلى رغم تجمع عدد كبير من الناس إلا أن الجميع خافوا من محاولة إنقاذها.

تحركت الشرطة في الاتجاهات كافة بلا جدوى... ولم تظهر الضحية إلا بعد ثلاثة أيام. لم تستطع أن تحدد شخصيات الملثمين... لكنها قالت إنهم أجبروها على تحرير شيكات بكل رصيدها في البنك. ولم يرفعوا السلاح عنها إلا بعدما ذهب أحدهم إلى البنك وصرف المبلغ. بعدها خدروها... لا تدري بعد ذلك إلا وهي ملقاة في الشارع!

اتهمت المجني عليها طليقها عمرو، عدوها الوحيد. لكن المباحث فوجئت بأن عمرو غير موجود في مصر منذ تسعة أيام، بعدما سافر مع الفرقة التي يعمل فيها إلى بيروت لإحياء بعض الحفلات!

ومرت الأيام من دون أن تنجح المباحث في الوصول إلى الملثمين الثلاثة أو السيارة التي ارتكبوا بها الحادث. وكان يقين رئيس المباحث أن الجناة من الوجوه الجديدة الذين دخلوا دائرة الإجرام حديثاً... وأنهم وجدوا ضألتهم في الرسالة المنشورة في الصحيفة! وقيدت النيابة الحادث ضد مجهول، خصوصاً أن الضحية أهملت السؤال عن نتائج بحث الشرطة وكأنها سعيدة بالتخلص من ثروة تشك فيها! وإن بقيت طوال السنوات الماضية تتمنى فقط لو عرفت من هم الملثمون الثلاثة... ومن منهم صرف الشيك ببطاقة مزورة، ومن الذي عرف عنوانها على رغم أنها لم تنشره مع الرسالة، وإن كان الوحيد الذي يعرفه هو طليقها المخلوع... والأغرب أنه ثبت سفره خارج البلاد أثناء الحادث وقبله؟!