الحدث الاستثنائي القطري ودلالاته

نشر في 01-07-2013
آخر تحديث 01-07-2013 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري أن يتنازل حاكم عن الحكم بكامل إرادته واختياره، وهو في قمة عطائه لشعبه، وفي خضم محبتهم له والتفافهم حول قيادته الملهمة، سابقة في تاريخ العالم العربي الحديث، بهذه الكلمات عبر الأستاذ محمد حمد المري رئيس تحرير "الوطن" في مقالته القيمة "تميم يكمل مسيرة الأمير" عن حقيقة الحدث التاريخي الكبير بتسليم صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد السلطة إلى سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.

 بمعنى أنه لا ضغوط خارجية ولا ظروف صحية أو محلية وراء هذا الحدث الكبير، ولعل هؤلاء الذين أطلقوا الأراجيف لم يتصوروا أن حاكماً عربياً يتنازل طواعية عن السلطة، فالسلطة في المخيال والوجدان والثقافة العربية، يسعى إليها المرء ويصارع من أجلها ولا يتنازل عنها إلا مكرهاً، والسلطة على مر التاريخ العربي الإسلامي هي القيمة المحورية في الحياة العربية، وقديماً قيل "حبذا الإمارة ولو على الحجارة"، وحب السلطة غريزة غلابة، والاقتتال من أجلها لازمة العرب أينما حلوا أو ارتحلوا.

 وتاريخ العرب إنما هو تاريخ من الصراع على السلطة والاستحواذ عليها عبر ثلاثية: الدين، القبيلة، الغنيمة، طبقاً للمفكر الجابري، لذلك عندما يأتي حاكم اليوم، ويستشرف المستقبل ببصيرة نافذة وعقلانية ناضجة، ويؤمن بأهمية نقل المسؤولية إلى الجيل الجديد، قناعة بكفاءتهم وقدرتهم على العطاء، فيقرر تسليم مقاليد الأمور بطريقة سلسلة وآمنة إلى نجله، فهذا حدث ليس عادياً، يصعب استيعابه على هؤلاء المشكيين الباحثين وراء كل حدث عن تفسيرات واهية.

 إن ما حصل حدث فريد لم يحصل مثله في تاريخنا، وعلينا نحن المثقفين أن نقف عنده لنتعرف أبعاده ودلالاته، صحيح أنه عبر التاريخ حصلت تنازلات عن الحكم، لكن الحدث التاريخي القطري، أمر مختلف، إذ لم يحصل أن تنازل حاكم وهو في قمة نجاحاته وشعبيته، بالرغم من مناشدات وتمنيات داخلية وخارجية بتأجيل قراره، كما حصل في قطر.

 إن ما حصل، حدث استثنائي، يجب أن يستوقفنا لنستنتج منه دروساً وعبرا، وصحيح أن الأمير لمح في مناسبات عدّة أنه يفكر في التنحي ونقل السلطة، لكن أحداً لم يتوقع أن ينفذ الأمير قراره اليوم، كان الجميع يعتقدون أن هذا أمر سيحدث مستقبلاً، لكن سموه رأى أن الوقت قد حان لإفساح المجال أمام قيادة شابة لبداية مرحلة جديدة، كما قال في خطابه "لقد حان الوقت أن نفتح صفحة جديدة أخرى في مسيرة وطننا، يتولى فيها جيل جديد المسؤولية بطاقاتهم المتوثبة وأفكارهم الخلاقة".

 إنه إيمان راسخ بقدرة الشباب الخلاقة وبحق تعاقب الأجيال في القيادة والمسؤولية، الآن: ما دلالات أن يتنازل سمو الأمير وهو في قمة نجاحاته وشعبيته؟! إن أولى الدلالات، أن سموه عندما قام بتحركه وتولى السلطة 1995 لم يكن تحركه منطلقاً من شهوة للسلطة ولم يكن دافعه مصلحة شخصية، بل كان مخلصاً في تحركه وصادقاً في دوافعه، أراد النهوض بقطر وكسر قيود الجمود التي كانت قطر أسيرة لها، أراد تجاوز حدود الجغرافيا والسكان إلى آفاق العالمية، أراد لقطر أن يكون لها دور فاعل في محيطها الخليجي والعربي والإقليمي والدولي، إلى متى تظل قطر منغلقة تعيش على خاصرة الخليج تابعة للآخرين؟! لماذا لا تنطلق إلى قلب العالم تأثيراً وتأثراً؟

أراد الأمير تحقيق إصلاحات شاملة وهذا ما تحقق فعلاً في خلال 18 عاماً، بعون من الله تعالى وبقيادة حازمة وعزيمة صادقة وبجهود رجال صادقين حوله، انتقلت قطر من بلد تقليدي، عصي على التغيير، إلى دولة عصرية متقدمة ومنفتحة على العالم ومؤثرة فيه، ولذلك عندما يقول سموه في خطابه "والله يعلم أنني ما أردت السلطة، غاية في ذاتها، ولا سعيت إليها من دوافع شخصية، بل هي مصلحة الوطن أملت علينا أن نعبر به إلى مرحلة جديدة".  نثق ونعتقد بصحة هذا القول الذي يشهد عليه واقع المجتمع القطري اليوم، فهو صانع وباني نهضة قطر الحديثة، وإذا كان الفضل ينسب إلى أهله ويشكر عليه، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله تعالى، فانظر إلى أريحية القائد وسموه الأخلاقي حين قال "أتحدث إليكم اليوم، لأشكر أهل قطر الذين كانوا معي طوال المسيرة، وساندوني وكانوا خير عون لي في الظروف الصعبة وفي مواجهة التحديات... كما أتوجه بالشكر والتقدير لكل الذين عملوا معي من قرب، حيث كانوا خير سند ومعين في الشدة وفي الرخاء"، إنها كلمات معبرة ومؤثرة، تجسد السمو الأخلاقي للأمير الوالد.

 سيسجل التاريخ له إنجازاته الإصلاحية التي تنعم بها قطر وبالأخص في 4 ميادين:

1- السياسي: بإلغاء الرقابة وإطلاق الحريات الإعلامية وإنشاء "الجزيرة" منبراً للحوار الحر، وإجراء انتخابات المجلس البلدي والاستفتاء على أول دستور قطري يتيح برلماناً منتخباً ويوسع قاعدة المشاركة.

2- الاقتصادي: بتحرير الاقتصاد وتشجيع القطاع غير الحكومي ليقوم بدور رديف في حمل أعباء التنمية، وتوفير بيئة اجتماعية وقانونية جاذبة للاستثمار والسياحة، والاستثمار في مشاريع عملاقة: الغاز والبتروكيماويات والنفط، لتصبح قطر أكبر مصدر للغاز المسال وتحتل المركز الثالث في الاحتياطي العالمي في الغاز الطبيعي، وليتضاعف الناتج القومي (16) مرة خلال 18 سنة، ولتمتلك قطر واحداً من أكبر اقتصادات المنطقة، وتحتل المرتبة الأولى عالمياً في معدل دخل الفرد مع نمو اقتصادي بنسبة 6.4% إضافة إلى استثمارات "جهاز قطر للاستثمار" الذي تقدر أصوله بـ100-200 مليار دولار.

3- التعليمي: تحققت إصلاحات تعليمية ومناهج جديدة وأنماط تعليمية متميزة، واعتمدت معايير عالمية لتقويم المخرجات، وأنشئت "مؤسسة قطر للتربية والعلوم والتنمية" حاضنة فروع الجامعات العالمية، ولعلنا نتذكر خطاب سموه في افتتاح المدينة التعليمية 2002 "إن هذا الحدث يفوق في أهميته أي مشروع اقتصادي أو صناعي، لكي نكون شركاء فاعلين في النظام التربوي العالمي الجديد".

4- الاجتماعي: لم تكن المرأة القطرية تحظى بمعظم الحقوق التي تمارسها اليوم قبل تولي الأمير الحكم، بل لم تكن شيئاً مذكوراً، وعندما جاء سموه جعل من "تمكين المرأة" سياسة أولوية، فأنشئ المجلس الأعلى للأسرة وصدر قانون للأسرة وتولت المرأة القطرية مناصب قيادية، وعملت في كافة المجالات المجتمعية من غير سدود أو حواجز، وقادت السيارة بعد أن كانت محرمة عليها، ولا ننسى هنا، الجهود الجبارة لحرم سمو الأمير الشيخة موزة ودورها البناء فيما تحقق للمرأة القطرية من مكتسبات تنعم بها اليوم. هذه نجاحات الداخل أما النجاح الخارجي فقد أصبح لقطر دور قيادي بارز في مجالات السلام والاستقرار والإعمار والتنمية والوساطة الحميدة والتوفيق بين الفرقاء، كما أصبحت أكبر داعم للشعوب العربية المضطهدة لنيل حريتها وحقوقها، وتحولت قطر إلى رقم إقليمي بارز في المعادلات الدولية لخدمة القضايا العربية والإسلامية وبخاصة القضية الفلسطينية، مستفيدة من علاقاتها الجيدة بالأطراف المختلفة، ولذلك فإن فوز قطر بـ"الرهان المونديالي" ولأول مرة في المنطقة العربية والإسلامية، بمثابة "شهادة تقدير" من المجتمع الدولي لقطر.

ختاماً: فهذه المسيرة الطويلة من النجاحات المشرفة، سيدعمها سمو الأمير الجديد وسيواصل مسيرة النجاحات بقيادة حازمة وعزيمة صادقة وبكفاءة وإخلاص الحكومة الجديدة التي رسم أمامها معالم الطريق في خطابه الذي افتتح به عهده، وكل ذلك بتوفيق من الله وعونه.

* كاتب قطري

back to top