أفغانستان والتقسيم الحتمي
تطلق الولايات المتحدة، التي لا تزال غارقة في مستنقع حرب مطولة في أفغانستان والتي تكبدت تكاليفها بالدم والمال، محادثات سلام رسمية مع "طالبان"، خصمها الرئيسي في ساحة المعركة، في الأيام المقبلة (على الرغم من معارضة الرئيس الأفغاني حامد كرزاي في اللحظة الأخيرة). ومع إصرار الولايات المتحدة على سحب قواتها بعد أكثر من عشر سنوات من القتال، فإن المحادثات المقررة في الدوحة بدولة قطر تهدف في الأغلب إلى تمكين الولايات المتحدة من القيام بذلك "بشكل مشرف".ولكن الكيفية التي قد ترسم بها نهاية العمليات القتالية التي تقودها الولايات المتحدة مستقبل أفغانستان ستؤثر أيضاً في أمن الدول المجاورة وما وراءها. وهنا يصبح السؤال الأكثر أهمية هو ما إذا كان مصير أفغانستان، التي أنشئت كمنطقة عازلة بين روسيا القيصرية والهند البريطانية، سيكون- أو ينبغي له أن يكون- مختلفاً عن مصير العراق وليبيا (البلدين اللذين يشكلان خلقاً استعمارياً آخر تدخلت فيه الولايات المتحدة عسكرياً في السنوات الأخيرة).
إن التدخل العسكري الأجنبي قد يؤثر في آلية تغيير النظام، ولكن من الواضح أنه غير قادر على إعادة تأسيس نظام يستند إلى حكومة مركزية. فقد انقسم العراق في كل شيء إلا الاسم إلى مناطق شيعية، وسُنّية، وكردية، ويبدو أن ليبيا تسير باتجاه تقسيم ثلاثي مشابه يقوم على ترتيبات تتفق مع الهيمنة القَبَلية. وفي أفغانستان أيضا، قد يكون التقسيم "الناعم" على غرار ما حدث في العراق أفضل نتيجة ممكنة.فمن جانبهم، لن يكتفي البشتون، رغم انقساماتهم القَبَلية، بالسيطرة على قطعة من أفغانستان تتألف من أقاليمهم الشرقية والجنوب شرقية الحالية. وسيسعون في النهاية إلى التكامل مع إخوانهم البشتون في باكستان، عبر خط ديوراند الذي رسمته بريطانيا، وهي الحدود التي لم تعترف بها أفغانستان قط. ومن هنا فإن المطالبة بدولة "باشتونية كبرى" سيشكل تحدياً لسلامة الأراضي الباكستانية (التي تُعَد هي ذاتها خلقاً استعمارياً مصطنعاً).وحقيقة أن الجماعات العرقية في أفغانستان تتركز في مناطق جغرافية متميزة من شأنها أن تبسط التقسيم وتجعل دوام الحدود الناتجة أكثر ترجيحاً، على النقيض من تلك التي رسمها المسؤولون الاستعماريون، الذين اخترعوا دولاً بلا هوية وطنية أو جذور تاريخية. والواقع أن المجموعات من غير البشتون في أفغانستان تمثل على المستويين الجغرافي والديمغرافي أكثر من نصف البلاد، ويشكل الطاجيك، والأوزبك، والهزارة ما يقرب من 50% من السكان.الواقع أن الولايات المتحدة، بعد خوض أطول حرب في تاريخها، وبتكاليف بلغت عشرات الآلاف من الأرواح وما يقرب من تريليون دولار، أصبحت منهكة من القتال ومرهقة مالياً. ولكن الجهود الأميركية الرامية إلى عقد صفقة مع "طالبان" البشتونية المدعومة من باكستان تثير انزعاجاً عميقاً بين المجموعات غير البشتونية، والتي عانت كثيراً في تحت حكم "طالبان" الذي دام خمس سنوات. (فقد عانى الهزارة المضطهدون تاريخيا، على سبيل المثال، من عدة مذابح واسعة النطاق).وفي حين كان كرزاي مذبذباً، على أقل تقدير، بشأن التعاون مع الأميركيين (الواقع أنه تراجع منذ ذلك الوقت عن المشاركة في محادثات الدوحة)، فإن تمزق تحالفه السياسي مع زعماء القبائل غير البشتون كان أيضاً سبباً في تغذية الاستقطاب العرقي. ويواصل بعض سماسرة السلطة من غير البشتون دعم كرزاي، ولكن كثيرين آخرين يقودون الآن الجبهة الوطنية المعارضة.ومن غير المرجح أن يتقبل هؤلاء القادة أي ترتيب لتقاسم السلطة يتضمن طالبان، بل إنهم يرتابون أن يكون هدف كرزاي النهائي يتلخص في استعادة هيمنة البشتون على مختلف أنحاء أفغانستان. وقد تعززت شكوكهم بسبب "خريطة طريق عملية السلام لعام 2015"، وهي الوثيقة التي أعدها المجلس الأعلى للسلام الذي شكله كرزاي، والتي ترسم تنازلات محتملة عدة لمصلحة "طالبان" وباكستان، تتراوح بين الاعتراف بـ"طالبان" باعتبارها حزباً سياسياً إلى منح باكستان دور في الشؤون الداخلية لأفغانستان، بل إن خريطة الطريق هذه تدلي بجزرة المناصب الوزارية وحكم الأقاليم لشخصيات بارزة في "طالبان".والمشكلة الأكثر خطورة اليوم هي أن التوترات العرقية في البلاد وتبادل الاتهامات تهدد بتقويض تماسك الجيش الأفغاني الوليد المتعدد العرقيات. والواقع أن الانشقاقات الحادثة اليوم تشبه تلك التي وقعت عندما انسحبت القوات السوفياتية من أفغانستان في عام 1989، وهو الخروج الذي أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية واستيلاء "طالبان" في نهاية المطاف على العاصمة كابول.ولكن في هذه المرة أصبحت الطوائف غير البشتونية أفضل تسليحاً وأكثر استعداداً للدفاع عن مصالحها بعد انسحاب الولايات المتحدة. وبالتالي فإن الولايات المتحدة، بسعيها إلى استمالة "طالبان"، لا تضفي الشرعية على ميليشيات من قطاع الطرق فحسب؛ بل إنها تجازف أيضاً بإشعال الفتنة العرقية في أفغانستان من جديد من دون قصد، وهو ما من شأنه أن يؤدي في الأرجح إلى تمزيق البلاد إرباً إلى الأبد.ويثير هذا تساؤلاً جوهرياً: هل تشكل وحدة أراضي أفغانستان حقاً ضرورة أساسية للأمن الإقليمي أو الدولي؟لا شك أن أمن الحدود القائمة أصبح يشكل قاعدة قوية في السياسة العالمية. ورغم هذا فإن هذه القاعدة سمحت بنشوء دول غير قابلة للحكم ولا الإدارة، والتي تمتد حروبها الداخلية عبر الحدود الدولية، فتغذي التوترات الإقليمية وانعدام الأمن.ومع نفاد صبر الولايات المتحدة التي أنهكتها الحرب، فإن القوى الخارجية ليست في وضع يسمح لها بمنع تقسيم أفغانستان على نحو أشبه بما حدث في العراق (أو حتى ما بعد يوغوسلافيا)، في ظل توقع اندلاع أعنف المعارك وأكثرها دموية للسيطرة على مناطق استراتيجية ذات عرقية مختلطة، بما في ذلك كابول. وفي هذا السيناريو، فإن الجنرالات الباكستانيين، بدلاً من الاستمرار في رعاية الجماعات المتشددة البشتونية في أفغانستان (مثل "طالبان" وحلفائها مثل "شبكة حقاني")، سيضطرون إلى محاولة درء تهديد خطير محتمل لوحدة باكستان.إن أفغانستان المقسمة الضعيفة قد لا تكون نتيجة مرغوبة؛ ولكن التقسيم "الناعم" الآن سيكون أفضل كثيراً من التقسيم "الخشن" في وقت لاحق، بعد سنوات من الفوضى وإراقة الدماء- وأفضل في كل الأحوال من عودة حركة "طالبان" التي ينتمي فكرها إلى القرون الوسطى إلى السلطة وعهد جديد من الإرهاب. بل إن التقسيم قد يكون الوسيلة الوحيدة لمنع أفغانستان من الانزلاق إلى حرب أهلية واسعة النطاق وإحباط خطط الإرهابيين الدوليين الرامية إلى إعادة إنشاء قاعدة لعملياتهم على أنقاض أفغانستان.* براهما تشيلاني | Brahma Chellaney ، أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات في نيودلهي، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف تسعة كتب، منها "الطاغوت الآسيوي"، و"المياه: ساحة المعركة الجديدة في آسيا"، و"المياه، والسلام، والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية".«بروجيكت سنديكيت، 2016»»بالاتفاق مع «الجريدة»