للمفكر اللبناني الشهير علي حرب قراءة متميزة لثورات الربيع العربي أرهصها في كتابه المعروف "ثورات القوة الناعمة في العالم العربي.. نحو تفكيك الدكتاتوريات والأصوليات" الصادر عن الدار العربية للعلوم، ناشرون 2011، وفيه يرى أن هذه الثورات هي ثمرة فتوحات العولمة بإمكاناتها الهائلة وأدواتها الفائقة وشبكاتها العنكبوتية التي ساهمت في فهم الواقع وإدارته وتغييره، كما غيرت نظرة الإنسان لنفسه وعلاقته بغيره، إضافة إلى أنها جسدت ولادة فاعل جديد على المسرح هو "الإنسان الرقمي" ذو "الأنا التواصلي" صاحب "العقل التداولي" الذي يتعامل مع معطيات وجوده بمفردات الاختراع والابتكار والتحويل والبناء والتجاوز.

Ad

 يرصد علي حرب الثورات العربية الراهنة كحدث له سمات، أبرزها:

1- أنه مفاجئ وغير متوقع، يصدم العقول ويزعزع الثوابت ويحدث تغييراً في المسارات والمصاير.

2- أنه واقعة خارقة، تخلق معطيات وحقائق من شأنها تغيير قواعد اللعبة السياسية وعلاقات القوة بما يجعل المستحيل ممكناً.

3- أنه غير أنماط التحليل وأعاد ترتيب الأولويات وأخل بنظام الأسباب والمسببات، بحيث أصبح ما كان سبباً، نتيجة وبالعكس، فعلى خلاف نظرية "لا تنمية بلا ديمقراطية"، حيث يتقدم العامل السياسي العامل الاقتصادي، نجد أن العامل الاقتصادي هو الذي يمهد للسياسي، فالانخراط في نظام السوق كما فعلت تونس أوجد إمكان ولادة الديمقراطية، والصين التي اعتمدت الاقتصاد الرأسمالي لن تستطيع مقاومة مجيء الديمقراطية طويلاً، ولا عجب فالاقتصاد الحديث تلازمه إتاحة التبادل للأفكار والأشخاص والأشياء، والغزو العولمي للهويات والخصوصيات فتح إمكان كسر القيود والتحرر من الاستبداد، وجعل من الخصوصيات الخلاقة، هويات عابرة للحدود.

4- إنه لا يمكن القبض على معنى الحدث أو استقصاء أسبابه أو حصر مفاعيله لأن الحدث يسبق شروطه كما يسبق النموذج الناجح من يحلل أسباب نجاحه، وبهذا المعنى، يشبه الحدث (النص) من حيث إنه يقبل قراءات متعددة، كما يولد أحداثاً جديدة، وبالتالي فإنه من غير الممكن التنبؤ بمآلاته أو السيطرة على مساراته، بل إن الحدث قد يرتد على فاعليه أو يتجاوزهم.

وبناءً على هذه المعطيات يرى حرب، أن نجاح هذه الثورات سوف يطوي "حقبة فكرية" ويفتتح أخرى، وما يطوى هو عصر الأيديولوجيات "الشمولية والأصولية" المجسدة في نماذجها الأربعة: النضالي الآفل، والنخبوي الفاشل، والبيروقراطي العاجز، والجهادي القاتل.  هذا عن الكتاب، ولكن: كيف يقرأ علي حرب ثورة 30 يونيو المصرية؟ في مقالة تحليلية رائعة نشرت مؤخراً يقدم حرب قراءة جديدة لثورة 30 يونيو يمكن إيجازها فيما يأتي:

1- أنها ثورة أربكت جميع الحسابات، وأفشلت كافة رهانات العرب والعجم على تجربة الإسلاميين في حكم مصر، وخلقت معطيات تغيرت معها علاقات القوة بقدر ما تغيرت التحالفات والعلاقات السياسية عربياً وإقليمياً ودولياً، وطبقاً لعادل درويش فإن المصريين أربكوا استراتيجية الغرب وأميركا بأن الإخوان سيحكمون حتى منتصف القرن، مما أخل بحساباتهم المبنية على استمرار حكم الإخوان.

2- أنها كسرت ثنائية "الداخل والخارج"، إذ لا فصل بعد اليوم بشكل حاسم بين الصعيدين، فقد تحول ما هو محلي أو وطني إلى عالمي أو كوكبي، وكسرت الحواجز بين المجتمعات عبر التواصل والتداول والتبادل والهويات الثقافية العابرة للحدود، وإذا كان "التشابك" في المصالح هو سمة الواقع العالمي، فإن "المصاير" باتت اليوم متشابكة أيضاً، لأن العالم أصبح "قرية إعلامية" كما أصبح "التواطؤ" هو سر العلاقات بين الدول، إذ يتحول الصديق إلى عدو مستتر كما في فضائح التجسس الأميركي على أوروبا، كما يفسر تحول الحليف الإقليمي والدولي إلى عدو مستتر يضر بأكثر من العدو المعلن، كما في التدخلات الأميركية والإيرانية.

3- أنها أبرزت فعالية "ديمقراطية الميدان" الاستثنائية، المتمثلة بخروج الملايين من المصريين، في إحداث التغيير المنشود، إزاء قصور "ديمقراطية الصندوق" الموسمية، والتي أثبتت فشلها في حل المشكلات المتراكمة.  ثورة 30 يونيو أعادت الاعتبار لـ"الديمقراطية المباشرة" بحسبها، أصل الديمقراطية، وأنها ممكنة حتى في ظل تزايد السكان واتساع الدولة، وأن "ديمقراطية الصندوق"، لا تلغي إرادة الشعب وحقه الأصيل في عزل الحاكم المنتخب عبر الصندوق، كما أن الصندوق وحده لا يعطي امتيازاً أبدياً لحاكم مهما بلغت شعبيته.

 ولنتذكر هنا كيف جاء هتلر عبر الصندوق وكيف أودى بألمانيا! طبقاً لمصطفى الفقي، كما أن من حق من منح الشرعية، وهو الشعب، أن يسحبها لأنه مصدر الشرعية، ولعل هذا هو ما أثار ردود فعل الغرب وأميركا، وأحرجهم كونهم مازالوا جامدين على أن اختيار الحاكم وإقالته لا طريق إليهما إلا عبر الصندوق لا عبر الديمقراطية المباشرة.

4- أنها أسقطت "نظرية المؤامرة"، إذ انكشف الخداع وسقط القناع، أولاً: لأن الأنظمة التي تستخدم هذه النظرية قد أتت إلى الحكم بانقلابات عسكرية هي ثمرة لعقلية التآمر، ثانياً: لأن رفع سيف المؤامرة كان مجرد ذريعة لقمع الحريات والهروب من استحقاقات الإصلاح، وبما أننا ننخرط في واقع كوني سماته "التشابك والتواطؤ" فإن أكثر من يتورط في أعمال التآمر والخيانة هو من يدعي محاربتها، أو يتهم الآخرين بممارستها، لنعترف بالواقع، فما تعانيه مجتمعاتنا ليس التآمر ولا الخيانة بل آفة مزدوجة: الفساد والاستبداد في الداخل والتشبيح الاستراتيجي الذي تمارسه الدول الكبرى من الخارج.

5- لا مكر للتاريخ ولا الشيطان، في وصول الإسلاميين في تونس ومصر إلى السلطة، وليس في الأمر سحر أو غيب أو مكر، فالعلة كامنة في أفكارنا، ذلك أن الإسلاميين صعدوا بعد تراجع الكتلة الحداثية "القومية والليبرالية واليسارية"، مما يعني أن صعودهم هو ثمرة سيئة لفشل خصومهم، لأننا كنا ضحايا أفكارنا بالدرجة الأولى، إذ تعاملنا مع النهضة والاستنارة والحرية والتقدم، لا بمنطق التحويل الخلاق بل بصورة طوباوية ساذجة، فحصدنا تراجعاً وإخفاقاً، ولا يوجد أيضاً مكر للتاريخ أو لغيره في سرعة تهاوي حكم الإسلاميين في مصر، بل ربما كان من حسن حظ الثائرين أن يتسلم الإسلاميون الحكم لكي يفشلوا، وهم فشلوا لأنهم أرادوا بناء دولة وتحقيق تنمية بأفكار الماضي ووسائله ونماذجه، ولم يحسنوا التحدث بلغة العصر ومفاتيحه.

6- ما جرى في مصر، ليس استرداداً للثورة كما يحسب الكثيرون، لأن الثورة حدث استثنائي خارق لا يتكرر، إنما نحن أمام موجات تنسخ الواحدة الأخرى أو تتجاوزها، بذلك لم يمكن سقوط حكم الإخوان نتيجة مؤامرة مدبرة إنما هو من مفاعيل الثورة المصرية التي يعود الفضل فيها إلى الشعب الذي خرج على نحو فاجأ العالم، وبما لم يشهد في أي بلد آخر، وكانت ثمرته سقوط المشروع الأصولي بعد سقوط النظام الدكتاتوري، وسيكون لهذا السقوط أثره في الحركات التي اقتدت أو تأثرت بالإخوان، إذ لا يمكن للمرشد أن يسقط في القاهرة من غير أن يهتز موقع المرشد في تونس وطهران.

7- ما فعله الجيش، ليس مصادرة للثورة واستيلاء على الحكم إنما هو نتيجة الحراك الشعبي الذي لم يسبق له مثيل، وذلك بعيداً عن التنظيرات المشبوهة التي تصدر عن مثقفين يظهرون خشيتهم على الديمقراطية من عودة العسكر، بينما مرادهم شيء آخر، وإذا كانت الثورة لا تسرق ولا تسترد، فهي قادرة على فتح أبواب الحرية أمام الجميع، وتلك هي ديمقراطية الميدان التي لا يخشى منها على الديمقراطية.

* كاتب قطري