قبل أسبوعين شاهدت فيلماً أميركياً خرج إلى الجمهور العام الماضي، يعالج شأناً موسيقياً بعنوان «رباعية»، أخرجه الممثل الشهير ديستان هوفمان. الفيلم ذو مسحة كوميدية، ولكن الموسيقى الملهمة تفرض على مشاهده تعاملاً جدياً. ففي دار عجزة حافل بحب الموسيقى، يسعى أربعة، رجلان وامرأتان، إلى تشكيل رباعي غنائي من أجل أداء أغنية رباعية شهيرة في أوبرا «ريغوليتّو» للموسيقي الإيطالي فيردي، كي تُقدّم في مسابقة خاصة. والرباعية الغنائية «آرية» أو أغنية تشترك في أدائها أربعة أصوات بشرية متنوعة الطبقات. وهذه الرباعية بالذات كانت المفضلة عند فيردي نفسه. على أن مصطلح «رباعية» عادة ما يشير إلى الرباعية الوترية (التي تؤدى بالآلات الوترية: فايولين عدد 2، فيولا وتشلو)، وقبل أيام شاهدت فيلماًجديداً، من إنتاج العام الماضي أيضاً، يعالج شأناً موسيقياً باسم «الرباعية المتأخرة»، لمخرج أميركي معروف في حقل الإخراج الوثائقي يُدعى «زايبرمان».

Ad

والرباعية هذه المرة تشير إلى رباعية بيتهوفن الوترية الشهيرة مصنف 131، وخاصة إلى حركتها الأخيرة «الفيوغ»، الذي استقل لشهرته عن الرباعية ذاتها.

الفيلم يقدم حكاية فرقة رباعية أميركية طافت شهرتها العالم على امتداد 25 سنة، ومع الدقائق نقترب من علاقات الشخوص الأربعة ببعض: عازف التشلو، وهو أكبرهم سناً، ويشرف على الفرقة بروح أبوية. سبق أن توفيت زوجته (مغنية أوبرا)، وها هو يكتشف ارتجافة في يده يجدها طبيبه الخاص أولى أعراض مرض بركنسون. عازف الفايولين الثاني، على شيء من الطيش، هو زوج عازفة الفيولا. لهما ابنة، وهي تلميذة فايولين، تحب عازف الفايولين الأول. وهذا الأخير عازف وصانع ماهر لآلة الفايولين، من مهاجري أوروبا الشرقية. نقترب من العلاقة بينهم، القابلة على التوتر. ولعل قرار رئيس الفرقة وراعيها للاعتزال بسبب مرضه كان عاملاً مهدداً لانهيار وحدة الفرقة الرباعية، والقلق بشأن مستقبلها ومستقبل عازفيها كموسيقيين وكأفراد. كما كان عاملاً لمسعى الجميع للتماسك أيضاً. هذا التعارض في الحدث يتداخل مع التعارضات اللحنية بالغة العمق التي تتوزعها الآلات الوترية الأربع. لأن الفيلم يبدأ بالفرقة على المسرح، وهي تشرع في العزف. ثم تنتقل اللقطة إلى راعي الفرقة، أستاذ آلة التشلو، وهو يحاضر على طلبته عن الزمان في الموسيقى والحياة، مستشهداً بمُفتتح قصيدة ت. س أليوت «الرباعيات الأربع» يتناول فيها الزمن في تواصله، استدارته وأبديته:

الزمان الحاضر والزمان الماضي

حاضر كلاهما، ربما، في الزمن المقبل،

والزمان المقبل يحتويه الزمان الماضي.

إن كان الزمان حاضراً أبداً

كان الزمان كله مستحيلَ الافتداء.

هناك لقطات ومشاهد عديدة تُضيء جوانب العمق في مشاغل العازفين، لتتوافق مع مشاغل رباعية بيتهوفن ذاتها. وهناك لقطات ومشاهد تلقي الضوء على مشاغل حياتهم المسطحة، العابرة. هذه التعارضات تشعرها في طبيعة المكان المنتخب بعناية أيضاً: بين البيت الدافئ، والخشب الرصين والإضاءة الهادئة، موحدة تحت ظل أنغام الرباعية، وبين الخارج صارخ البياض والبرودة بفعل الثلوج، التي تغطي الشوارع والحدائق.

فن الرباعية الوترية يتربع على قمة موسيقية خُصّت به، منذ ابتكره النمساوي «هايدن». ولكن الحوار بين الآلات الوترية الأربع، والذي كان في عهده وعهد موتسارت بعده يميل إلى توازن الشكل الفني الصافي، أصبح على يد بيتهوفن حواراً مفكراً. ثم أصبح في الرباعيات الخمس الأخيرة، وفي هذه الرباعية بالذات حوار عواطف فردية، مكثّفة، بالغة الالتباس والعمق ونزعة التأمل.لأن بيتهوفن في مرحلة صممه المطلق الأخيرة عاش حياة عزلة انقطع إلى نفسه فيها، وكان يؤلف على هوى هذه النفس، دون تكليف من الخارج.

فن الرباعية هذا يصلح للنفس المتأملة، الملتبسة والعميقة. ومع بيتهوفن خطى باتجاه بعدٍ مجهول لا يميل إليه كل محبي الموسيقى. وهذا الشيء يصح على فيلم «الرباعية المتأخرة» الذي أتحدث عنه. لأن مشاهده يجب أن يتحلى بحب الموسيقى، ويميل إلى مرحلة بيتهوفن هذه، ويرغب بتأمل نشاطات الكائن في غمرة الحياة العملية، وتقاطعاتها مع مشاغله الروحية والعقلية.