شغل العديد من رؤساء الوزارة مقر الحكومة البريطانية في 10 داوننغ ستريت لفترات تماثل أو تتجاوز عهد مارغريت تاتشر، وفاز البعض بعدد مماثل من الانتخابات- وكان توني بلير واحداً منهم- غير أن السيدة تاتشر (التي غدت في ما بعد الليدي تاتشر) تظل المرأة الوحيدة التي شغلت ذلك المنصب رئيسة للوزراء، وخلفت سمة من السياسات والقناعات التي لا تزال تتردد من وارسو إلى سانتياغو والعاصمة الأميركية واشنطن.

Ad

حصلت هذه الفتاة الذكية والمجدة على شهادة في الكيمياء من جامعة أوكسفورد حيث نشطت في مجال سياسة المحافظين، وبغية التقدم في ما كان يعرف بالحزب الأرستقراطي الكبير بدأت بالنأي بنفسها عن أصولها المتواضعة وتزوجت من رجل أعمال ناجح هو دينيس تاتشر الذي أسهم في تمويل عملها السياسي. وقد تحدثت إبان تدربها كمحامية مثل امرأة من الطبقة العليا المتوسطة التقليدية وكانت تقيم في منزل جميل في الريف وأرسلت أطفالها إلى مدارس عامة. ثم دخلت البرلمان في سنة 1959 عن فنشلي في شمال لندن، وأصبحت بسرعة وزيرة في سنة 1961.

سيدة لا تغير مسارها

فازت السيدة تاتشر بقيادة حزب المحافظين في انتخابات سنة 1975 وتمكنت من هزيمة هيث بفارق كبير، وكانت المرأة التي لم يسبق لها أن شغلت أي منصب رفيع في السياسة البريطانية- ومن خلال عملها وطاقتها بدت مثل شخصية كتاب "المرأة الفائقة" للكاتبة شيرلين كونران الذي حاز أفضل الكتب مبيعاً قبل سنة. وحاول الروس السخرية منها عبر وصفها "بالمرأة الحديدية" غير أن ذلك أفضى إلى ردة فعل سلبية، حيث أحبت تاتشر ذلك الوصف واستخدمته لتحقيق ميزة لها.

غير أنها كانت حذرة أيضاً، وكانت تعلم أن معظم أعضاء حزبها- ناهيك عن بقية البلاد- لم يدعموا سياستها ولذلك فقد تقدمت بصورة بطيئة نحو تعيين مؤيديها في مناصب رئيسية محدودة ولم تفعل، بخلاف ذلك، سوى القليل لتوحي بانفصال راديكالي عن الماضي. واعتمدت تاتشر بقدر أكبرعلى موجة عدم التأييد المتصاعدة لدى حزب العمال الذي لم يتمكن من السيطرة على حلفائه المفترضين في النقابات العمالية خلال فوضى "شتاء الاستياء" في 1978- 1979 للفوز في انتخابات سنة 1979.

وبمجرد تسلمها السلطة، على أي حال، كشفت عن لونها الحقيقي، وتم خفض الإنفاق الحكومي من أجل السيطرة على المعروض النقدي فيما سمحت بتعويم العملة، وهما خطوتان حاسمتان إزاء متشددي حقبة ما بعد الحرب، كما تم خفض المساعدات الصناعية الذي وضع العديد من الشركات المالية في طريق مسدود، وعلى خلفية الركود العالمي كانت النتيجة ارتفاعاً حاداً في معدل البطالة، وبحلول سنة 1981 وعندما تجاوز عدد العاطلين عن العمل 3 ملايين شخص كانت الشرطة تكافح بصورة علنية المحتجين من رماة قنابل المولوتوف في العديد من شوارع المدن البريطانية.

إقالة الضعفاء

كانت هذه النقطة الأدنى في شعبية السيدة تاتشر التي غدت، لبعض الوقت، الأقل شعبية في منصب رئاسة الوزارة في بريطانيا، يومها توقع العديد من زملائها أن تتراجع غير أنها مضت بقوة مؤكدة أنها لن تغير مسارها، ثم عمدت إلى إقالة كل الوزراء "الضعفاء" الذين أرادوا تحويل خطها السياسي وحشدت كل مناصريها العقائديين- واشتملت ميزانية سنة 1981 على المزيد من خفض الإنفاق ما أفضى الى قدر أكبر من الانكماش في الطلب وترك البلاد تحت رحمة الركود الاقتصادي.

وشهد ذلك، أكثر من أي شيء آخر، ولادة شهرة السيدة تاتشر مثل امرأة تتسم بحزم لا يلين، ومع استمرار التباطؤ الاقتصادي تحولت فرصها السياسية من خلال غزو الأرجنتين لجزر الفوكلاند في شهر أبريل من سنة 1982. وأمرت تاتشر التي تملكها الغضب والصدمة بإرسال قوة خاصة من أجل استعادة تلك الجزر التي تبعد مسافة 8000 ميل في جنوب الأطلسي، وقد ترددت أصداء مجادلتها- بأنها كانت تدافع عن خيار سكان الجزر في البقاء تحت العلم البريطاني وعدم "مهادنة" الدكتاتورية الأرجنتينية- بقوة في صفوف البريطانيين الذين عانوا سنوات الهزيمة والتقهقر، وساهمت عملية استعادة جزر الفوكلاند في جعل السيدة تاتشر نجمة عالمية.

وقد أفضى ذلك إضافة إلى سوء حظ حزب العمال بقيادة مايكل فوت إلى حصول السيدة تاتشر على فوز كاسح للمرة الثانية في الانتخابات العامة البريطانية في سنة 1983 والذي سمح لها بالمضي قدماً في تعديلات جوهرية هيكلية في الميدان الاقتصادي. ثم شرعت في سنة 1984 بجولة واسعة من عمليات الخصخصة التي أدت إلى بيع شركات ضخمة مثل "بريتش تيليكوم" و"بريتش إيرويز" و"بريتش غاز" إلى القطاع الخاص– وتشجع الأفراد على شراء أسهم ما أفضى إلى خلق صورة "الرأسمالية الشعبية" في بريطانيا.

رعب الإضرابات

وبعد أن قهرت العدو في جنوب الأطلسي توجهت السيدة الحديدية نحو تطويق "عدو الداخل" ضمن هيئة الإذاعة البريطانية والجامعات والحكومة المحلية التي قامت ببساطة بإلغاء معظمها. غير أن هدفها الرئيسي كان حزب العمال المنظم الذي جعل من غير الممكن حكم البلاد- خصوصاً الاتحاد الوطني لعمال المناجم (إن يو إم) الذي يصل أعضاؤه إلى مليون عضو بقيادة آرثر سكارغيل.

كان الاتحاد الوطني لعمال المناجم نشر الرعب في وجه حكومة هيث من خلال تكنيكات الإضراب المتطرفة التي اتبعها وغدت المواجهة معه حتمية، وقد حدث ذلك عندما بدأ الاتحاد إضرابه في شتاء 1984– 1985 وتمكنت السيدة تاتشر من تجاوزه عبر المجادلة في أن الحالة كانت معركة بين حق الإدارة في إدارة المواجهة مع الاستخدام التعسفي لقوة الاتحاد، وكان انتصار السيدة الحديدية نهاية للمشكلة المتمثلة بذلك الاتحاد بشكل نهائي. ومن منظور بريطاني، كان ذلك أكثر إنجازاتها أهمية.

إحياء الرأسمالية

يذكر أن هذه النجاحات السياسية، إضافة إلى رونالد ريغان، جعلت منها أكثر دعاة إحياء الرأسمالية تميزاً في العالم. وشهدت علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة أفضل مراحل التعاون، كما كانت تاتشر من أشد مؤيدي الحرب الباردة وتبين ذلك حيثما ذهبت وراء الستار الحديدي وحظيت بثناء بوصفها داعية للحرية، وهو ما كانت عليه في أغلب الأحيان.

الفترة الثالثة من حكمها كانت الوحيدة التي انتهت إلى إذلال شخصي على الرغم من أنها قد أشارت خلال تقاعدها النشط إلى عدم حدوث ذلك في الانتخابات البريطانية. وعملت تاتشر على صعيد الداخل على إصلاح الأنشطة الداخلية لدولة الرعاية ومحاولة خلق أجواء منافسة بين "مزودي" الخدمات الصحية والتربوية وتسليم عملية اتخاذ القرار اليومية إلى المدارس والمستشفيات وأطباء العائلة. وعلى صعيد الخارج واجهت "المشكلة الأوروبية"- وحقيقة أن السوق الأوروبية المشتركة التي كانت تحبذها- قد تحولت بازدياد نحو اتحاد أوروبي.

إصلاحات تاتشر الداخلية وضعتها في مواجهة خصوم أشد قسوة من السيد سكارغيل، والاتحادات النقابية مثل نقابات الطبقة المتوسطة على غرار اتحادات المعلمين والجمعية الطبية البريطانية التي جادلت في أن السيدة تاتشر قد عقدت العزم بصورة راسخة على تفكيك دولة الرعاية حتى مع زيادة الإنفاق على القطاع العام. وقد تملك الاضطراب العديد من المقترعين المترددين إضافة الى أعضاء البرلمان المحافظين الذين لمسوا موجة تذمر من "تلك المرأة" في أوساط "شعبهم".

لغة التشدد

وقد ألهبت المشكلة الأوروبية ذلك الغضب- وكانت على الدوام تتسم بصعوبة بالنسبة إلى بريطانيا التي تنظر إلى الأطلسي وإلى القنال الواصل بأوروبا، غير أن تلك المشكلة كانت أشد صعوبة بالنسبة إلى حزب المحافظين الذي كان في ذلك الوقت منقسماً بين دعاة التكامل الأوروبي الذين اعتبروه ثمناً ضرورياً من أجل تحقيق التجارة الحرة من جانب، والمشككين الأوروبيين الذين كانوا يخشون قيام دولة أوروبية فائقة على الجانب الآخر. كما أن الطموحات المتصاعدة من جانب بروكسل جعلت من المستحيل تجاوز تلك الانقسامات في القارة القديمة.

وكان أسلوب تاتشر الإمبريالي المتزايد قد أضاف المزيد من العمق الى هذا الوضع؛ لأنها بعد أن حققت فوزها الثالث أصبحت ميالة بقدر أكبر الى الإشارة الى نفسها بكلمة تعبيرية هي "نحن" مع التشدد في وجه أي معارضة. ثم استخدمت حاشية من الأتباع بغية تصميم سياسة البلاد وتهميش أعضاء البرلمان في المقاعد الخلفية. والأكثر من ذلك أنها كانت تسأل بشكل عرضي من زملائها ما إذا كانوا "من جماعتنا" وحتى صحيفة حزب المحافظين "صنداي تلغراف" اتهمت السيدة تاتشر بـ"نزعة النصر البورجوازية".

الهزة العميقة

وحتى وزير المالية في حكومتها نيغل لوسون تقدم في شهر أكتوبر من سنة 1989 باستقالته احتجاجاً على محاولتها تقويض سياسته المتعلقة بالمارك الألماني. وقد أربكت حزبها بضريبة قضت بدفع الدوق وجامع القمامة المبلغ ذاته في مقابل خدمات الحكومة المحلية، وهي ضريبة أثارت الكثير من الاستياء بحيث اضطرت إلى إلغائها فيما بعد، كما أنها عالجت المشكلة الأوروبية بلغة حادة جداً كما حدث في براغ في سنة 1988 قائلة "نحن لم نرجع بنجاح حدود الدولة في بريطانيا لنشهد عودة فرضها على مستوى أوروبي".

وقد أفضى ذلك الى سلسلة سريعة من الأخطاء التكتيكية التي تمكنت في نهاية المطاف من إقناع حزبها بضرورة فصلها من صفوفه في تصرف أحدث هزة عميقة لديها واحتاج من الحزب إلى جيل كامل لتجاوز تداعيات ذلك القرار. وفي شهر نوفمبر من سنة 1990 تقدم جيفري هاو، وهو آخر من تبقى من عمالقة حكومة 1979 باستقالته كنائب لرئيس الوزراء احتجاجاً على رفض السيدة تاتشر الموافقة على جدول زمني حول الانضمام إلى العملة الأوروبية الموحدة. ولدى مغادرته ألقى خطاباً مدمراً حول صعوبة محاولة العمل مع تاتشر.

ونتيجة لذلك تحول مايكل هسلتاين، وهو خصمها القوي من جناح اليسار في حزبها، إلى أكثر شخصية تتحدى زعامتها وقد فازت السيدة تاتشر في أول اقتراع، ولكن ليس بسهولة كافية تمكنها من تفادي جولة ثانية، وكان أن قام وزراء حكومتها بزيارات لها الواحد تلو الآخر وتمكنوا في نهاية المطاف من إقناعها بالتخلي عن المنصب لأن ذلك في مصلحة الحزب.

ظلال وارفة

من خلال الحكم عبر منظور تاريخي كبير يتعلق أضخم إرث للسيدة تاتشر بنشر الحرية، مع هزيمة الاستبداد والشمولية في الاتحاد السوفياتي، ومع إحياء تقاليد الاقتصاد المتحرر الذي تراجع بعد سنة 1945. وقد أفضى مزيجها من اليقين العقائدي وأهميتها الدولية إلى ضمان لعب بريطانيا دوراً غير متناسب مع وزنها في العالم. وكانت السيدة تاتشر أول شخصية سياسية منذ عهد ونستون تشرشل ينظر اليها بجدية من جانب قادة كل القوى الكبرى، وكانت بطلة لرجال السياسة في المعارضة في أوروبا الشرقية، كما أن رغبتها في الوقوف جنباً الى جنب مع "العزيز روني" (الرئيس الأميركي رونالد ريغان) من أجل الحيلولة دون التوسع السوفياتي ساعد في تطوير عقلية جديدة في قصر الكرملين، غير أن إصرارها على أن ميخائيل غورباتشوف، هو الرجل الذي يمكن للغرب التعامل معه قد ساعد أيضاً في انهاء الحرب الباردة.

انتشرت ثورة الخصخصة التي قادتها تاتشر في شتى أنحاء العالم، وتبنتها دول ما بعد الشيوعية بحرارة، وبحلول سنة 1996 قامت روسيا بخصخصة حوالي 18000 من المشاريع الصناعية. كما أنهت الهند قيود تراخيص الشركات (تراخيص الراج)- وهو إرث آخر من تقاليد الإمبراطورية البريطانية- وأطلقت طائفة من الشركات الناجحة. وفي شتى أنحاء أميركا اللاتينية تبنت الحكومات سياسة تحرير الأسواق... وسواء حقق ذلك نجاحاً أم لا، فإن تلك الحكومات كلها تطلعت إلى النموذج البريطاني في العمل.

تهميش المحافظين

وفي الداخل كان إرث السيدة تاتشر أكثر تعقيداً، وقد انتشرت التناقضات إلى حد كبير جداً كما أن هذه المرأة الحديدية تمكنت من تهميش حزب المحافظين طوال جيل كامل، وقد توقف ذلك الحزب عن كونه حزباً وطنياً ثم انطلق في مسيرة تراجع نحو الجنوب والضواحي وبلغ نهايته في أسكتلندا وويلز والمدن الشمالية. وفي حقيقة الأمر فقد استفاد توني بلير من ثورة تاتشر بقدر يفوق ما حققه خليفتها جون ميجور، حيث تمكن الأول نتيجة ضعف الاتحادات النقابية وتشويه صورة اليسار من إعادة ترتيب نموذج الحزب وتسويقه بنجاح في وسط إنكلترا لسنوات طويلة.

وتميزت السيدة تاتشر أيضاً بعدائها لما يعرف بالحكومة الكبيرة كما كان كرهها لجناح اليسار الذي هيمن على العديد من المدن البريطانية كبيراً وجلياً- وهنا يتعين أن نضيف أن الأخطاء التي ارتكبها تيار اليسار كانت شنيعة للغاية- بحيث عمدت تاتشر وبقدر يفوق أي رئيس وزراء بريطاني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى تطويق الحكومات المحلية ضمن شبكة مشددة من القيود والتعليمات.

 ولم يكن لديها الوقت الكافي من أجل فكرة وجود رؤساء بلديات منتخبين يجمعون بين السلطة الحقيقية والمسؤولية الحقيقية، وكان من نتيجة ذلك أن بريطانيا أصبحت تشبه بقدر أكبر فرنسا المركزية جداً وليس أميركا اللامركزية.

الجوانب السلبية

ولكن على الرغم من ذلك كله ليس من الممكن التحدث عن إنجازات السيدة تاتشر بلغة المكاسب، فقد خالفت ما كان معلمها كيث جوزيف يحب أن يطلق عليه "تأثير المسننة" حيث تحصل الدولة من خلاله على مكافأة بسبب فشلها في نيل مزيد من السلطة. وباستثناء الفترة القصيرة التي تميزت باتخاذ إجراءات طارئة في أعقاب الأزمة المالية العالمية خلال 2007 – 2008 لم تكن هناك أي خطوات تهدف إلى إعادة توطين الصناعة أو إلى استئناف سياسة دعم والتقاط الفائزين.

ولكن بفضل جهود السيدة تاتشر انتقل مركز الجاذبية في السياسة البريطانية وبشكل دراماتيكي إلى اليمين، وقد توصل حزب العمال الجديد في التسعينيات من القرن الماضي إلى محصلة مفادها أن في وسعه إنقاذ الحزب من الدمار فقط من خلال اعتماد العقيدة المركزية للتاتشرية– "ويجب أن يتمحور الافتراض حول أن من الأفضل ترك النشاط الاقتصادي الى القطاع الخاص بحسب قول توني بلير– ولم يكن هو ولا من جاء بعده الى حكم بريطانيا يحلمون بالعودة الى أيام التأميم وقوة الاتحاد المحررة من القيود.

وتستمر هذه المرأة الحديدية بإلقاء ظلها الجلي، ولا يرجع ذلك إلى أنها شخصية مفرقة بل لأن القضايا التي عالجتها أيضاً تستمر في خلق مواجهة وانقسام. لقد استمرت الدولة في بريطانيا في التوسع بعد فترة من الكبح كما تفجر العجز المالي وأصبحت العلاقة وثيقة جداً بين الحكومة وبعض الشركات- وفي هذه المرة كانت مع البنوك وليس مع المصنعين- وتظل تاتشر والتاتشرية التي صاغتها ذات صلة ملائمة اليوم، كما كانت في الثمانينيات من القرن الماضي.