كان من تداعيات سقوط حكم الإخوان ذهاب البعض إلى أن هذا السقوط سقوط للإسلام المعتدل باعتبار الإخوان الممثلين للإسلام "الوسطي المعتدل"، من ثم خلو الساحة من الفكر المعتدل، الأمر الذي ينشّط التطرف ويهيئ الساحة لتيارات العنف، وهؤلاء يدللون بما هو حاصل في مصر من عنف وترويع وحرق وتدمير، ويرون في تصفية الإخوان قضاء على الفكر المعتدل.  دعونا نطرح التساؤلات التالية: هل الإخوان هم الممثلون الحقيقيون للإسلام المعتدل؟ وهل ترجموا وسطية الإسلام واعتداله في مواقفهم السياسية تجاه الجماعات الأخرى؟ وهل في تاريخهم ما يدعم وسطيتهم واعتدالهم؟ وأين موقع وسطيتهم من وسطية المؤسسات الدينية في البلاد العربية وفي مقدمتها الأزهر الشريف؟

Ad

لقد نجح الإخوان بفضل حسن تنظيمهم وعلو صوتهم وكثرة نشاطهم في الترويج لأنفسهم في الداخل والخارج بأنهم يمثلون الإسلام المعتدل، وتمكنوا من إقناع مراكز وجهات في الغرب وأميركا بأنهم المؤهلون لكبح جماح التطرف والعنف بوجهيهما: السياسي والديني، ويبدو أنهم نجحوا في تسويق بضاعتهم، خاصة أنه سبق لأميركا أن تعاونت معهم في الخمسينيات لمواجهة المد الشيوعي في المنطقة.  وقد سوغ للجهات الخارجية قبول الإخوان كونهم أعلنوا التزامهم قواعد الديمقراطية وحقوق الأقليات والمرأة واحترام معاهدة السلام مع إسرائيل ومنع حماس من مهاجمتها.

 يضاف إلى ذلك أن من يرصد أدبيات الإخوان، التي فاضت بها المكتبة العربية بصورة طاغية، يلاحظ أن فقهاء الإخوان وكتّابهم هم الأبرع تنظيراً وتسويقاً للفكر الوسطي الإسلامي– يكفي أن تراجع إصدارات ومنشورات "المركز العالمي للوسطية" بالكويت– بل وصل ادعاء الإخوان وأنصارهم بأنهم الوسطيون الحقيقيون، أنهم عقدوا اجتماعاً حاشداً في فندق شهير، لمبايعة رمز إسلامي كبير إماماً للوسطية والاعتدال!! لكن ما حصل ويحصل على ساحة التنظير والفكر شيء، وما حصل ويحصل في ميدان الممارسة والعمل السياسي شيء آخر، نحن نقرأ للإخوان فنعجب بهم، لكن نتأمل سلوكياتهم ومواقفهم السياسية فنصدم بهم!

 دعونا نناقش التساؤلات المطروحة حول وسطية الإخوان في ضوء تجربتهم في حكم مصر:

 أولاً: الادعاء بأن الإخوان هم الممثلون للإسلام المعتدل خطأ مزدوج، معرفي وأخلاقي، معرفي لأنه لا يمكن احتكار الوسطية ولا يجوز لفصيل سياسي مهما علا كعبه في الدين أن يدعي أن فهمه للدين هو الفهم الصحيح، لأن ذلك نوع من "احتكار الحقيقة"، وعلى هذا فمقولة أن "الإخوان هم الممثلون للإسلام المعتدل" تشبه مقولة "نحن الفرقة الناجية".

 وأما من الناحية الأخلاقية، فهذه المقولة تؤدي إلى نوع من اليقين المفرط أو الثقة الزائدة التي تحول أصحابها إلى الاستعلاء والغرور والإعجاب بالذات، واحتقار الآخرين ورفض الاعتراف بالأخطاء وتجاهل الواقع المتغير والعناد المؤدي إلى الانتحار السياسي، وهذا ما يحصل في الساحة المصرية اليوم، فلا يعرف الإسلام احتكار الحقيقة الدينية بدليل "التعددية" التي شاءت الحكمة الإلهية إقرارها في قوله تعالى "ولذلك خلقهم"، كما لا يعترف باحتكار الوسطية مثلما لا يعترف باحتكار الجنة.

 ثانياً: الادعاء أن الإخوان يمثلون "الوسطية" نسبياً، أي بالمقارنة بالجماعات المتشددة لا يمكن التسليم به بالمطلق، لأنه حتى في نطاق جماعة الإخوان نجد المعتدل والمتشدد والمتساهل، فالتعميم خطأ معرفي، حتى بالنسبة إلى الجماعات المتشددة هم يعتبرون أنفسهم وسطيين ومعتدلين، ويرون الإخوان متساهلين مفرطين.

ثالثاً: "الوسطية" حالة محمودة وممدوحة، والكل يدعيها وينتسب إليها، لأنها سمة الأمة الإسلامية "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"، وعلى مر التاريخ ادعت كل الفرق أن فهمها هو الفهم الصحيح والمعتدل للإسلام، لكن المحك الحقيقي لمصداقية الادعاء هو الممارسة العملية والترجمة الصادقة للوسطية والاعتدال على أرض الواقع. وإذا تأملنا تجربة الإخوان في مصر وجدناها بعيدة عن مفاهيم الوسطية والاعتدال، سواء في المواقف والتصرفات السياسية أو على مستوى التصريحات والفتاوى الدينية، إذ فشل الإخوان في ترجمة دعواهم بالوسطية والاعتدال في القرارات التي أصدروها، وفي التشريعات والإجراءات التي نفذوها، فرفعوا شعار "المشاركة" وطبقوا شعار "المغالبة". بل لم يحصل في تاريخ مصر أن أصدر حاكم إعلاناً دستورياً يحصن قراراته كما فعل مرسي! ولم يحاصر دور العدالة لتعطيل عمل القضاء كما حصل في عهد الإخوان! ولم يتعرض قضاة مصر لتطاول أعظم ولمذبحة عظمى كما حصل في حكمهم! وسيست منابر بيوت الله تعالى وسخرت للدعاية الانتخابية، ووظفت الفتاوى سياسياً للأغراض الحزبية كما لم يحصل من قبل، فأين الوسطية والاعتدال في ذلك؟!

 رابعاً: تعرضت وسطية الإخوان واعتدالهم الديني والفكري لاختبار حقيقي وهم في الحكم إلا أن الاختبار الأعظم كان بعد خروجهم أو عزلهم من السلطة، لم يتقبلوا ما حصل وأنكروا أن هناك ثورة شعبية ضدهم، وظلوا في اعتصامات خانقة ومعطلة للحياة العامة ولمصالح الناس، وظلوا ينظمون مسيرات تشتبك مع الأهالي والشرطة وتتصادم معهما مما تسبب في وقوع ضحايا من الطرفين، وكل ذلك بحجة أنهم يرفضون حكم العسكر.

 وكان بوسعهم تقبل الهزيمة السياسية بصدر رحب وتفهم الواقع الجديد ومحاولة الانخراط في العمل السياسي، واستعادة الشعبية عبر مراجعة الأخطاء والاعتراف بها والاعتذار عنها، ومحاولة تصحيحها، لكنهم- للأسف- كابروا وتجاهلوا الواقع الجديد، واستمروا يتهمون خصومهم بتصورات واهمة بأنهم سيعودون إلى كرسي الحكم بالتهديد بإحراق القاهرة وإسالة المزيد من الدماء! لا يمكن وصف مواقف الإخوان وسلوكياتهم مؤخراً في مصر بأنها مواقف تتسم بالوسطية والاعتدال بأي حال من الأحوال، لقد سقط الإخوان في هوة التطرف والعنف، وجاءت فتاوى مشايخهم محرضة ومستهدفة الجيش المصري الذي هو خير أجناد الأرض، وكل ذلك من أجل هدف سياسي بائس ويائس، هو استعادة كرسي الحكم! بل من يتأمل الخطاب الإخواني اليوم، يجد أنه لا يختلف مطلقاً عن الخطاب "القاعدي"!

خامساً: ما يدعيه الإخوان من نبذهم العنف، يناقضه:

 1- أن العنف كان ملازماً في شواهد كثيرة لتاريخهم على يد التنظيم الخاص.

 2- أن تبريرهم للعمل الإرهابي في أميركا والغرب بأنه رد فعل لمظالم الغرب وأميركا ضد المسلمين، وفي الدول العربية بأنه رد فعل لعنف الأنظمة العربية ضد الجماعات الإرهابية، لا يعد موقفاً وسطياً معتدلاً، بل مشجعا على استمرار العنف.

 3- أن الفكر الإخواني العنيف والمتمثل بالخطب والفتاوى المحرضة ضد الخصوم السياسيين، بتصويرهم أنهم أعداء الإسلام ومشروعه، يعد أخطر من الفعل المادي العنيف.

سادساً وأخيراً: إذا قارنا وسطية الإخوان بوسطية المؤسسات الدينية الرسمية في الدول العربية وجدنا أن هذه المؤسسات هي الأقرب للوسطية والاعتدال الديني.

* كاتب قطري