اعتبر بعض المراقبين في الدول الأجنبية اغتيال الزعيم المعارض البارز، شكري بلعيد، هذا الشهر في العاصمة التونسية انحرافاً عن المسار السياسي الذي يتبعه البلد راهناً، فقد اعتُبرت تونس سابقاً "نقطة مشعة"، إذا جاز التعبير، وسط جمهوريات ما بعد الثورة. بدا احتمال أن تتقدم تونس نحو ديمقراطية مستدامة بدون انقلابات كبرى أو تراجع إلى المزيد من العنف أكبر، مقارنة بمصر وليبيا، لكن باحثين ومراقبين آخرين رأوا بوضوح العلامات التي تنبئ بالسوء طوال سنة الماضية، فقد شككوا، وشككنا، في أن تكون مواصلة الولايات المتحدة، في ظل موسم الانتكاسات هذا، مشاريعها لنشر الديمقراطية في المنطقة مناسبة في وقت مماثل.

Ad

لم يكن قتل بلعيد الاغتيال الأول الذي شهدته تونس أخيراً، بل شكل مؤشراً إلى ميل أوسع بدأ يتجلى السنة الماضية وما زال ينمو: فالتقدم البسيط الذي حققته تونس قبل الثورات نحو بناء المجتمع المدني ومؤسساته (ما يُعَدّ أسس الديمقراطيات الثابتة) بدأ يضعف بدل أن يترسخ ويتطور، نتيجة لذلك، بات من المستبعد أن تشهد تونس تطورات ديمقراطية في المستقبل القريب، ففضلاً عن مهاجمة أي معارضة سياسية سلمية للمؤسسة الإسلامية الجديدة، استهدفت العناصر العنيفة في البلد الحركة العمالية وأعضاء من مجتمع القادة الدينيين المعتدلين، الذين كانوا في الماضي شخصيات بارزة في مساجد البلد.

وقع أول حدث مميت في هذه الحملة الأخيرة السنة الماضية حين اغتيل الشيخ لطفي القلال، داعية محبوب من حركة وعظ وإرشاد لا طموحات دينية لها تُدعى "جماعة التبليغ والدعوة"، صحيح أن الشبهات تدور حول السلفيين، إلا أن الحكومة التي يقودها حزب النهضة الإسلامي لم تقم بأي عمليات توقيف. يُعتقد أن مقاتلين إسلاميين ارتكبوا هذه الجريمة، التي اعتُبرت أحد الأوجه الأعنف لحملة تطهير للمساجد اجتاحت البلد، فمن نتائج حكم زين العابدين بن علي الظالم قمع قاسٍ وشامل للإسلام السياسي في البلد والتسامح مع مجموعات شبيهة بجماعة التبليغ والدعوة، لأنها لم تشكل خطرا بالنسبة إلى النظام.

تكاد حملة المقاتلين الإسلاميين للتخلص من هؤلاء الدعاة في مساجد البلد أن تكتمل. يقول المسلمون الملتزمون، الذين تحدثنا إليهم في أنحاء عدة من بلد، إنهم توقفوا عن حضور صلاة الجمعة لأنهم عاجزون عن العثور على مسجد يشعرون فيه بالراحة، ولا شك أن هذا الميل يشكل ضربة للمجتمع المدني، لأنه يحد من فرص سعي المواطنين العاديين وراء السلام المدني، سائرين على خطى حملة شعلة الإيمان.

علاوة على ذلك، ارتكب إسلاميون ينتمون إلى السلفيين وأنصار حزب النهضة اعتداءات عدة ضد الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يشكل حصنا للاستقرار والمجتمع المدني منذ صراع تونس من أجل الاستقلال عام 1956، ففي الصيف الماضي، أُضرمت النيران في ثلاثة مكاتب إقليمية تابعة لهذا الاتحاد. كذلك استمرت الاعتداءات العنيفة التي نفذتها مجموعات عرّفت عن نفسها بأنها سلفية ضد مجموعات تابعت للاتحاد تتظاهر سلمياً طوال الخريف حتى الشتاء. ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن الإسلاميين كانوا شبه غائبين عن تظاهرات عامَي 2010-2011 التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس السابق بن علي، فبعد التظاهرات العفوية الأولى، مدّت قيادة الاتحاد هذه الحملة السلمية بمزيد من الزخم والقوة. وسواء أدت الاعتداءات الحالية إلى إضعاف الاتحاد أو تقويته، تشير الوقائع الأخيرة إلى أنه اليوم في موقع الدفاع، حتى إن الكثير من أعضائه يخشون المشاركة في النشاطات العامة.

إذا، لا تشكّل تونس استثناء في ميل التقهقر الواضح الذي تشهده جمهوريات "ما بعد الثورة" العربية منذ السنة الماضية. تُعتبر تونس اليوم نموذجاً مصغراً عن الوضع في مصر، ومع أن التراجع السياسي والمؤسساتي في كلا البلدين يستقطب الاهتمام الدولي، لا يلاحظ الغرب التأثيرات الأوسع الأكثر دقة، فخلال زياراتنا إلى كلا البلدين، حاول الناس مراراً أن يوضحوا لنا أن النسيج الاجتماعي بحد ذاته يتفكك. باتت أسس المجتمع المدني أكثر قساوة، فمع تراجع الثقة المتزايد بالجيران والغرباء، تحاول الأسر استغلال انتشار الأسلحة في البلدين للتسلح، كذلك تشير بعض منشآت إعادة التأهيل في البلدين إلى أن معدلات تعاطي المخدرات بين الشبان تنمو بسرعة. باختصار، خبت حماسة ثورة عام 2011، التي لم تدم طويلاً، حتى بات المواطنون التونسيون والليبيون والمصريون يعتبرون العيش في بلدانهم غير مرغوب فيه.

لكن الجو العام مختلف في معظم مملكات وإمارات المنطقة، التي نجحت كلها حتى اليوم في تخطي انتفاضات الثورة، ففي المغرب، ازدادت المساحة الديمقراطية منذ اعتلاء محمد السادس العرش. وتنامى هذا الميل مع تبني دستور جديد السنة الماضية، فصار رئيس حكومة إسلامي منتخَب يتشاطر اليوم السلطة مع الملك. كذلك يتواصل التغيير السياسي، وإن ببطء، ونرى أيضاً إجماعاً عاماً بين الشعب على أن الإصلاحات التدريجية أفضل بكثير من الانتفاضات العنيفة، ومن أسباب ذلك أن الملك، الذي ما زال يحتفظ بمكانته بصفته السلطة الدينية العليا في البلد، يمنع أي جهود للأصولية الدينية ويحمي التقاليد المميزة للإسلام المتسامح الذي لطالما ساد في المغرب.

تملك المغرب روابط تاريخية عميقة مع الشعب اليهودي: فقد حمى جد الملك محمد الخامس 200 ألف مغربي يهودي من بطش النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. ويتحدر نحو مليون إسرائيلي من جذور مغربية، وشكّل تدشين الكنيس اليهودي "صلاة الفاسيين" أخيراً "درساً من المغرب إلى القرن الحادي والعشرين"، وفق رئيس الحكومة الإسلامي في المغرب. صحيح أن المملكة المغربية اعتُبرت دوما "استثناء" وسط الموجات الإقليمية الأوسع، إلا أنها صارت تملك اليوم الكثير من القواسم المشتركة مع عدد من السلالات الحاكمة العربية، ففي بعض دول الخليج التي زرناها أخيرا، يشعر المواطنون بالارتياح لأنهم تفادوا انتفاضات السنتين الماضيتين (قد لا ينطبق ذلك على البحرين التي تزداد انقساماً وتشهد أعنف قمع ملكي للتظاهرات حتى اليوم، فضلاً عن أنها لا تزال تعاني الكثير من التوتر والاضطرابات). ففي المملكة العربية السعودية، التي تُعتبر المملكة الأكثر تحفظاً وتشدداً من الناحية الدينية، نرى ميلاً ليبرالياً جديداً يزداد بروزاً وتأثيراً، ما يشكل نقيض الوضع في تونس ومصر. أما في الأردن، حيث بدأ الغربيون يتوقعون اندلاع ثورة مع تجدد التظاهرات نحو نهاية السنة الماضية، فيسود السلام المدني، وتعكس المفاوضات بين الأحزاب، التي شكّلت محور مناقشات كثيرة بعد الانتخابات البرلمانية الشهر الماضي، المشاركة الشعبية في العملية السياسية.

لمَ، إذن، ما زلنا نسمع في الغرب دعوات إلى مشاريع جديدة لنشر الديمقراطية في العالم العربي؟ عُقدت في واشنطن في الأشهر الأخيرة مؤتمرات لدعم "احتمالات نشر الديمقراطية في الخليج العربي" وأنحاء أخرى من المنطقة. وتلقي هذه المؤتمرات أحياناً الضوء على أرقام من هذه الدول لا تعكس بالضرورة حقيقة ما يريده الشعب ككل. يفتقر الأميركيون عموماً إلى اتصالات كافية في هذه المنطقة ليقيموا نبض السياسة الشعبية، كما يُظهر واقع أن قليلين توقعوا موجة الثورات التي بدأت في تونس، وللمضي قدما من الضروري بذل جهود إضافية لأخذ وجهات نظر الأكثرية في الاعتبار.

* شراعي، ناشر الصحيفة المغربية الأسبوعية L'Observateur. وبرود، متخصص في شؤون الشرق الأوسط.