العقوبات التي أعدت في السنوات الماضية ضد إيران بحيث لا تلحق ضرراً واسع النطاق بالشعب الإيراني تسبب ضرراً ملموساً في الوقت الراهن. وستدخل عقوبات أميركية جديدة حيز التنفيذ في فبراير المقبل، ويعمل المشرعون الأميركيون على إعداد مزيد من العقوبات.

Ad

في أول أسبوع للرئيس الأميركي باراك أوباما في الرئاسة قال إنه سيمد يده إلى زعماء إيران إذا خففوا مواقفهم وأقنعوا الغرب بأنهم لا يسعون لصنع قنبلة نووية.

لكنهم لم يفعلوا ذلك حتى الآن وهو ما دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عام 2012 لاتخاذ خطوة كانا يحجمان عنها لفترة طويلة وهي فرض عقوبات تجارية للضغط على عصب الاقتصاد الإيراني وهو إيرادات النفط.

وهكذا أضحت حربا مالية تنطوي على مخاطر كبيرة. فحتى وقت قريب كانت إيران رابع أكبر مصدر للنفط في العالم حيث كانت تقدم نحو 3 في المئة من إجمالي المعروض في السوق العالمي. وكان من المحتمل أن تؤدي الجهود الرامية إلى حجب هذا النفط عن السوق إلى دفع أسعار النفط العالمية للارتفاع وإحداث اضطراب في نظام المدفوعات الدولي والضغط على التعافي الاقتصادي العالمي الهش.

وفي عدة مقابلات وصف مسؤولون أميركيون وأوروبيون كبار المناورات الدبلوماسية التي قاموا بها لإصدار العقوبات بدون إحداث صدمة في سوق النفط.

وأبلغ أوباما حلفاءه أن العقوبات النفطية هي السبيل الوحيد لتفادي حرب جديدة بين إسرائيل وإيران. وضغط مبعوثون أميركيون على مسؤولين عراقيين وليبيين ومن قبلهم على مسؤولين سعوديين لزيادة إمدادات بلدانهم من النفط الخام. وحاولت واشنطن وحلفاؤها تطمين أسواق النفط المتقلبة برسائل صيغت بعناية. وزار دبلوماسيون أميركيون جنوب العراق للاطلاع على خطط لبناء مرافئ نفطية جديدة قد تساعد على تعويض فقد الإمدادات الإيرانية.

سوء إدارة

وبأحد المقاييس حققت المخاطرة المحسوبة نتيجة مرجوة. فإيران تفقد إيرادات بمليارات الدولارات شهريا وتدهورت عملتها بسبب العقوبات وسوء إدارة الاقتصاد. وتراجعت صادرات النفط الإيرانية 55 في المئة في 2012 وفقا لبيانات وزارة الخزانة الأميركية. وعوضت دول أخرى منتجة تلك الإمدادات وتراجع سعر النفط العالمي.

لكن لا يوجد حتى الآن دليل على أن الضغط حقق الأثر المرغوب وهو إقناع إيران بوقف تشغيل أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم الذي قد يستخدم في صنع قنبلة نووية.

واستطاعت إيران التحايل على بعض الإجراءات. وقد وثقت "رويترز" كيف حصلت إيران على مكونات تكنولوجية أميركية محظورة قيمتها ملايين الدولارات لاستخدامها في قطاع الاتصالات بواسطة شركات صينية وشرق أوسطية وإيرانية وكيف غيرت أسماء وأعلام سفنها للالتفاف على عقوبات أخرى وكيف أخفت بعض مبيعاتها النفطية.غير أن العقوبات تؤثر عليها سلبا وكان عام 2012 شاهدا على ذلك.

رفض قاطع

وكانت القشة الأخيرة التي جعلت فرض العقوبات النفطية ممكنا هي مواجهة دبلوماسية في تركيا في يناير 2011. فقد اجتمع ممثلون للقوى الخمس الكبرى وألمانيا في اسطنبول للقاء وفد إيراني. وأرادوا أن يعرفوا إن كانت إيران قد تلقي نظرة جديدة على اقتراح عمره 15 شهرا لنقل جزء كبير من اليورانيوم المخصب الإيراني إلى خارج البلاد مقابل حصولها على وقود لمفاعل طهران للأبحاث الذي ينتج نظائر مشعة للأغراض الطبية.

وكان من شأن موافقة طهران على ذلك أن يحرمها من نوع من الوقود يمكن تخصيبه بدرجة أكبر للحصول على مادة انشطارية للقنابل. وفي المقابل كان الإيرانيون سيحصلون على شيء كانوا يريدونه وهو وقود المفاعل وربما على صيغة تحفظ ماء الوجه لبدء مفاوضات نووية أوسع نطاقا.

لكن المفاوضين الإيرانيين في محادثات اسطنبول تمسكوا بالموقف الرافض وبما وصفه مسؤول أميركي كبير باللهجة "القاطعة". وسمح هذا الرفض القاطع -بعد عامين من جهود أوباما للتعاون مع الإيرانيين- لواشنطن بإقناع الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين بأن الوقت قد حان لفرض عقوبات أكثر صرامة.

الإيرادات النفطية

وفي أواخر 2011 أعد أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي تشريعا لاستهداف إيرادات النفط الإيرانية بشكل مباشر. فقد أرادوا أن يخولوا أوباما سلطة فرض العقوبات على البنوك الأجنبية بما في ذلك البنوك المركزية إذا تعاملت مع البنك المركزي الإيراني لشراء أو بيع النفط.

لكن فريق أوباما -الذي ضم مسؤولين كبارا من وزارة الخزانة- انقسم بشأن ما إذا كان الضرر الذي ستلحقه العقوبات النفطية بإيران أكبر مما ستلحقه بالاقتصاد العالمي أم العكس.

واعتبر كثيرون استهداف بنك مركزي خطوة خطيرة ولم يكن هذا رأي البيت الأبيض وحده. فإذا فشلت هذه الخطوة فإنها قد تسبب اضطرابات في نظام المدفوعات الدولي الذي تديره البنوك المركزية في العالم. وكانت هذه الفكرة قد نوقشت في السابق لكن بوش استبعدها.

وفي 15 نوفمبر 2011 طلب مسؤول كبير في وزارة الخزانة من أعضاء بارزين في مجلس الشيوخ من بينهم روبرت مينينديز العضو الديمقراطي عن نيوجيرزي ومارك كيرك العضو الجمهوري عن ايلينوي إرجاء تقديم التشريع.

لكن في غضون أيام تقدم به الجمهوريون مما أجبر الديمقراطيين في مجلس الشيوخ -بمشاركة من وزارة الخزانة وإن لم يكن بمباركتها الرسمية- على التوصل إلى تسوية تمنح أوباما قدرا أكبر من المرونة لفرض العقوبات.

تردد البيت الأبيض

غير أن البيت الأبيض ظل مترددا. وفي 29 نوفمبر أرسل البيت الأبيض المسؤول الثاني في كل من وزارة الخارجية ووزارة الخزانة وفريق الأمن القومي يطلب من أعضاء مجلس الشيوخ على التمهل في إصدار التشريع.

وفي أول ديسمبر أرسل وزير الخزانة تيموثي جايتنر إلى السناتور كارل ليفين رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ لتسجيل "اعتراضه الشديد" على التشريع. وحذر من أنه قد يؤدي إلى شق صف حلفاء الولايات المتحدة فيما يتعلق بإيران ويعزز طموحات طهران النووية من خلال رفع أسعار النفط وبالتالي الإيرادات الإيرانية.

ووصلت الأزمة إلى ذروتها حين أدلى ديفيد كوهين وكيل وزارة الخزانة بشهادته أمام الكونغرس في ذلك اليوم. وقال مينينديز -وهو من أكبر المؤيدين لتقليص إيرادات النفط الإيرانية- لكوهين إن مناورات الإدارة الأميركية لإرجاء التشريع "مشينة".

وصوت مجلس الشيوخ لصالح مشروع القانون الذي اقترحه ميننديز بمجموع 100 صوت موافق وبدون أي أصوات رافضة. وبعد عدة أشهر قال مسؤولون في إدارة أوباما إنهم كانوا يريدون فقط مرونة لتقليل المخاطر في الاستراتيجية الجديدة. وفي آخر يوم في 2011 وقع أوباما القانون لإصداره.

عقوبات أوروبية

وكان من المنتظر أن تخسر أوروبا أكثر بكثير مما قد تخسره الولايات المتحدة إذا قيدت التجارة مع إيران. فلا يوجد تبادل تجاري يذكر بين الولايات المتحدة وإيران. لكن حجم تجارة دول الاتحاد الأوروبي مع إيران بلغ 27 مليار يورو (36 مليار دولار) العام الماضي منها واردات نفط بنحو 14 مليارا.

لكن في أواخر 2011 وتحت ضغط تهديدات إسرائيلية متكررة بتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية أخذ الاتحاد الأوروبي خطوات لفرض عقوبات نفطية وبحماس أكبر مما لدى البيت الأبيض.

ولم تظهر علامة على تباطؤ وتيرة البرنامج النووي الإيراني. ففي الثامن من نوفمبر قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن إيران "قامت بأنشطة لها صلة بإنتاج جهاز تفجير نووي". وذكرت أن إيران تعمل على وضع تصميم لسلاح نووي.

وفي 21 نوفمبر كتب الرئيس الفرنسي (السابق) نيكولا ساركوزي إلى زعماء القوى الكبرى لحثهم على فرض عقوبات على "نطاق غير مسبوق" تتضمن حظرا لتجارة النفط وتجميدا لأصول البنك المركزي.

وفي يناير 2012 اجتمع دبلوماسيون من الاتحاد الأوروبي في بروكسل لتحديد التفاصيل النهائية. لكن العقوبات المالية كانت عائقا إذ أرادت عدة حكومات أوروبية أن تعرف كيف سيضر تجميد أصول البنك المركزي الإيراني بالتجارة في القطاعات غير النفطية.

ووضع الاتحاد الأوروبي استثناءات لحماية التجارة المشروعة. وفي 23 يناير أعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيحظر على الدول الأعضاء استيراد النفط الإيراني بدءا من أول يوليو وسيجمد أصول البنك المركزي الإيراني في الاتحاد الأوروبي. وحظر على الشركات الأوروبية أيضا نقل أو تأمين تجارة النفط الإيراني.

وحجبت الخطوة الأوروبية ما بين 450 ألف برميل يوميا و600 ألف برميل يوميا عن الأسواق العالمية. وعززت العقوبات الأميركية الجديدة تلك الجهود حيث أجبرت دولا آسيوية ودولا أخرى على تقليل اعتمادها على النفط الإيراني.

إغلاق هرمز

وفي 28 ديسمبر 2011 هدد قائد القوات البحرية الإيرانية حبيب الله سياري بإغلاق مضيق هرمز ذي الأهمية الاستراتيجية قائلا إن ذلك سيكون أسهل من "شرب كوب من الماء". وقال مسؤول أميركي إن الإيرانيين كانوا يحاولون دفع أسعار النفط للارتفاع لتعويض انخفاض الصادرات.

وأدت تهديدات إسرائيل بتوجيه ضربة لإيران بتعقيد استراتيجية الحلفاء أكثر من ذلك.

وفي الرابع من مارس اعتلى أوباما المنصة في المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (ايباك) الداعمة لإسرائيل في واشنطن وقال كلمة لم تكن ضمن خطابه المعد سلفا. قال: "هناك كلام غير محسوب عن الحرب أكثر مما ينبغي". وكان في الأسابيع القليلة السابقة قد قال إن "مثل هذا الكلام لا يفيد سوى الحكومة الإيرانية لأنه يدفع سعر النفط للارتفاع".

وعلى مدى ربيع 2012 قام البيت الأبيض والعواصم الأوروبية بحملة تصريحات لتهدئة الأسواق. وفي أكثر من مرة لمحت واشنطن إلى أنها مستعدة لاستخدام الاحتياطي النفطي الاستراتيجي الأميركي إذا لزم الأمر.

وعززت السعودية إنتاجها إلى أعلى مستوى في 30 عاما فوق عشرة ملايين برميل يوميا في مايو وظل مرتفعا حتى أكتوبر. وبحلول نوفمبر كانت أسعار النفط قد تراجعت 20 دولارا للبرميل من مستواها المرتفع في مارس.

وبحلول سبتمبر 2012 كان العراق يضخ 500 ألف برميل يوميا فوق ما كان يضخه قبل عام وكان إنتاج ليبيا قد قفز من 200 ألف برميل يوميا إلى 1.5 مليون برميل يوميا بحسب تقرير لإدارة معلومات الطاقة الأميركية.

(رويترز)

تخفيض المشتريات

لايزال يتعين على واشنطن أن تقنع الحلفاء القلقين والمنافسين الاقتصاديين مثل الصين بإجراء "تخفيضات كبيرة" في مشترياتهم من النفط الإيراني حسبما ينص القانون الأميركي الجديد وإلا فسيواجهون عقوبات.

وتراجعت الواردات الشهرية للصين والهند -أكبر المشترين من إيران- من الخام الإيراني أكثر من 30 في المئة في الربع الثالث من 2012 مقارنة مع الربع الأخير من 2011 وفقا لأرقام من مركز السياسات غير الحزبية ومقره واشنطن. وقلصت اليابان -ثالث أكبر مستورد للنفط الإيراني- مشترياتها بنسبة 56 في المئة خلال نفس الفترة. وقلصت كوريا الجنوبية وارداتها بنسبة 82 في المئة وتركيا بنسبة 19 في المئة.

وحين ضاق الخناق هبط الريال الإيراني إلى أدنى مستوياته في التاريخ مسجلا 38 ألف ريال للدولار في أوائل أكتوبر مما أثار احتجاجات عنيفة حول السوق الكبير في طهران.

الاحتياطيات الأجنبية

لعبت العقوبات دورا في نقص الاحتياطيات. لكن سوء الإدارة في إيران كان أيضا من بين الأسباب في النقص. فمثلا أثار قرار إيران بإقامة مركز جديد للصرف الأجنبي فزع كثيرين ممن اعتبروا ذلك علامة على أن العملة الصعبة بدأت تنفد.

وحجم الاحتياطيات الأجنبية لدى إيران -المهمة لقوتها الاقتصادية- محل تخمينات من صانعي السياسة النقدية والتجار.

ويتوقع العديد من المسؤولين الغربيين سرا استئناف المحادثات بشأن برنامج إيران النووي في أوائل 2013. ولن تكون تلك المحادثات سهلة.

فإيران تدافع بحزم عن حقها في تخصيب اليورانيوم لما تقول إنها أغراض سلمية. ويقول المواطنون الإيرانيون بما فيهم أولئك الذين لا يشعرون بالرضا عن زعمائهم إنهم يدعمون البرنامج.

لكن العقوبات التي جرى إعدادها في السنوات الماضية بحيث لا تلحق ضررا واسع النطاق بالشعب الإيراني تسبب ضررا ملموسا في الوقت الراهن. وستدخل عقوبات أميركية جديدة حيز التنفيذ في فبراير المقبل ويعمل المشرعون الأميركيون على إعداد مزيد من العقوبات.

ومساحة الدبلوماسية آخذة في التناقص. وفي خطاب لنتنياهو أمام الأمم المتحدة في سبتمبر أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي موعدا نهائيا تقريبيا لتلك الجهود هو صيف 2013.

وقال أوباما للصحفيين بعد أسبوع من فوزه بفترة رئاسية ثانية: "فرضنا أشد العقوبات في التاريخ". وأضاف أنه سيحاول مجددا فتح حوار مع إيران. وتابع "لا أستطيع أن أعدكم بأن إيران ستدخل من هذا الباب".