المجتمع العراقي يتفكك وسياسوه غارقون في خلافاتهم
يذهب المواطنون العراقيون ضحية غياب الحوار بين الفصائل المتنافسة في السلطة، وجريمتهم الوحيدة أنهم قصدوا السوق لشراء البامية لزوجاتهم كي يعددن طعام الغداء، جريمتهم أنهم ذهبوا إلى المسجد ليصلوا لله ويسألوه أن ينجح أولادهم في الامتحانات المدرسية.
رأيت للمرة الأولى مخلفات تفجير في العراق الشهر الماضي عند مدخل مطار بغداد، فقد وقع الانفجار قبل لحظات من هبوط طائرتنا القادمة من أبوظبي.كانت سيارات عدة متوقفة عند نقطة عباس بن فرناس، محطة التفتيش الأخيرة قبل بلوغ المطار، حيث يودّع الناس أحباءهم، عندما عبرت سياراتنا مكان الانفجار، كانت قد أُخليت إلا من أطر السيارات المشتعلة. لقي العشرات حتفهم، وقد فرح أبي، الذي ذعر حين شاهد خبر الانفجار على شاشة التلفزيون، حين رآني في موقع البناء حيث يعمل في بغداد وأنا سليمة معافاة.
كان يتحدث إلى عدد من المهندسين، فأخبرني أحدهم أن مسؤولي الأمن عثروا على عبوة ناسفة في مدخل مسجد قريب كان يصلي فيه، وقد حالفهم الحظ لأنهم تمكنوا من تفكيكها في الوقت المناسب. ويتحدث الجميع عن محاولة وشيكة لإعادة تأجيج الانقسام الطائفي في البلد.لم نتوقع مطلقاً أن تتطور الأحداث في العراق بهذه السرعة، لطالما وقعت أعمال عنف على أطراف العاصمة وفي مناطق نائية من البلد، ولكن بعد مرور ثلاثة أسابيع، ما عادت بغداد بحد ذاتها آمنة.كانت الاعتداءات في الماضي تستهدف أماكن عامة، مثل الأسواق والمطاعم والمقاهي، أما اليوم، فبات هؤلاء الأشرار يركزون على أماكن الصلاة والعبادة: مساجد السنّة والشيعة.لقي 86 شخصاً حتفهم يوم الاثنين، ما جعله اليوم الأعنف والأكثر دموية خلال هذه السنة، فأججت تفجيرات يوم الاثنين مشاعر الكره في كلا الطرفين. حتى باتت عبارة "حرب طائفية" تُستخدم غالباً لوصف أعمال العنف.يناضل العراقيون السنّة من أجل حقوقهم، وهذا أمر مشروع، لكن قلة منهم حملوا أعلام نظام صدام حسين خلال التظاهرات، ما سلبهم هذه الشرعية في نظر الشيعة، الذين يخافون عودة المد البعثي تحت عباءة تنظيم القاعدة. وما زاد الطين بلّة أن الحقيقة لا تبدو جلية، فتصور كل من المحطات العراقية التابعة لأحزاب سياسية عدة الخبر من وجهة نظر مغايرة، ملقية اللوم على أطراف مختلفة. راحت أمي تردد، وهي تبكي وتتابع التطورات من أبوظبي: "بغداد تحترق"، وهكذا صارت أمي وكل العراقيين في حيِّنا مدمنين على مشاهدة الأحداث السامة والمميتة في العراق.ولكن كيف وصلنا إلى هذه الحال؟ يتشاجر سياسيو العراق الشيعة والسنّة على حدّ سواء بخلافاتهم، محتمين وراء أسوار المنطقة الخضراء المدعمة مع حراسهم الشخصيين. فيتنعمون بالكهرباء التي لا تنقطع وثرواتهم التي لا تنفك تنمو. في المقابل، يموت الناس في شوارع بغداد.يذهب المواطنون العراقيون ضحية غياب الحوار بين الفصائل المتنافسة في السلطة، وجريمتهم الوحيدة أنهم قصدوا السوق لشراء البامية لزوجاتهم كي يعددن طعام الغداء، جريمتهم أنهم ذهبوا إلى المسجد ليصلوا لله ويسألوه أن ينجح أولادهم في الامتحانات المدرسية.فبينما رحت أتابع الأحداث من غرفة الأخبار في أبوظبي، فكّرت في المعجزة التي يحتاج إليها العراقي ليستجمع قواه بعد مأساة مماثلة وينهض في الصباح ويذهب إلى العمل ليعود مساءً إلى عائلته كما لو أن شيئاً لم يحدث. لا شك أن لا مبالاة العراقيين مذهلة. ولكن في الكواليس نرى أن نسيج المجتمع العراقي يتفكك. بدأ الناس يستسلمون، فيريد الجميع الرحيل أو يُرغمون على ذلك.بدأت العائلات المقيمة في العامرية، حي سنّي راقٍ في بغداد، تتلقى التهديدات، والتحذير واضح: انتقلوا أو واجهوا العواقب، تعكس هذه التهديدات التحذيرات التي انتشرت خلال تلك الأيام الحالكة من العنف الطائفي بين عامَي 2005 و2008.في دولة هشة مثل العراق، شكّلت التركيبة الغريبة من عدم الاستقرار السياسي، التوتر الطائفي، التأثيرات الجيو-سياسية، والفراغ الأمني الجو الأنسب لازدهار الجريمة، العصابات، والميليشيات. فأين هي الدولة؟ أين الأمن؟ أين كل تلك الوعود؟ خاطر الناس بحياتهم ليصوتوا لمن يجلسون اليوم في كراسي السلطة.كفانا! لا تكتفوا بالجلوس ومراقبة إراقة الدماء، آن الأوان للجلوس إلى طاولة المفاوضات، ناقشوا كل خلافاتكم وقوموا بما تقتضيه مصلحة الشعب. لا تسمحوا بهدر المزيد من دماء الأبرياء عبثاً. أعطوهم الأمل! أعطوهم المستقبل!Hadeel Al Sayegh