قبل عام تحديداً غادرنا راحلنا الكبير جاسم القطامي، وترك فراغاً لا يمكن ملؤه.

Ad

وكان رحمه الله من النماذج النادرة التي مرت على هذا الوطن وعلى الإنسانية.

سيرته ومساره كان متسعاً شاملاً للفهم الإنساني بآفاقه الواسعة. لم يكن حاصل جهد وعطاء جاسم القطامي مقتصراً على محيطه المحلي الكويتي فحسب، بل انطلق جهده وحماسه للبناء والتأسيس إلى الأفق العربي الأرحب على امتداده، إلى أن وصل إلى المحيط الدولي.

ومتابعة سيرة جاسم القطامي تعطينا نموذجاً لكيفية وماهية التحولات السياسية التي جرت في الكويت، وكيف كان هو من دفع برفع سقف المطالبات عالياً عندما كان للتضحية ثمن وكلفة عاليان، فإن كانت هناك آفاق للحراك الشعبي والإصلاح والدفع نحو التغيير، وإن كانت هناك لمسة حرية نسبية يستطيع من خلالها الناس انتقاد السلطة دون خوف أو وجل، فإن الفضل يعود بدرجة أو بأخرى إلى جاسم القطامي، ومن سار معه على نفس المنوال، فنحن اليوم نسعى إلى أن نبني على ما تم تأسيسه من قيم ومبادئ من الحرية، والالتزام الوطني العام قبل الاتجاه السياسي.

فجاسم القطامي لم يبق معنا بذكراه الملهمة فحسب، بل بالقيم التي دفع بها وشكلها على الأرض وجعلها تسير على قدمين، وإلى الدفع بالقيم الإنسانية للمؤسسة التي عمل بها. وهكذا كان يرتحل من الرؤية السياسية البحتة إلى المحتوى الإنساني حتى مع خلفيته الأمنية.

فجاسم القطامي كان بالأساس رجل شرطة تخرج في كلية الشرطة بمصر، وكان حينها أول كويتي مؤهل في العلوم الشرطية، وبالتالي تم تعيينه مديراً للشرطة، إلا أن ذلك المنصب المرموق، وصعوبة اتخاذ الموقف حينذاك، من أن يتخذ موقفاً صلباً، كفرد، لا كجماعة وبالتالي يتحمل العواقب الوخيمة التي كانت ستنتج عن مثل تلك المواقف. وهكذا فاجأ جاسم القطامي الجميع برفضه تنفيذ الأوامر الموجهة إليه.

التصدي للمتظاهرين الكويتيين الذين خرجوا تأييداً ودعماً لمصر ولجمال عبدالناصر، عندما أمم قناة السويس، وشنت عليه فرنسا وبريطانيا وإسرائيل عدواناً ثلاثياً سنة ١٩٥٦، ولم يتوقف عند الرفض بل قدم استقالة مدوية لرئيس الشرطة حينذاك، وكان الشيخ صباح السالم، رحمه الله، كان هذا نصها: «سعادة الرئيس، كان بودي الاستمرار في عملي كمدير لشرطتكم الموقرة، بيد أن اختلافي مع سعادتكم في مسائل جوهرية تتعلق بحرية الشعب وكرامته، في حين أنني لا أستطيع أن أحارب هذه الأفكار التي أنا شخصيا مؤمن بها ومستعد للتضحية بالنفس والمال في سبيل استمرارها وبلوغ ما تصبو اليه، لهذا كله أرجو قبول استقالتي، والله يحفظكم».

لم يكن تقديم استقالة من هذا النوع لمنصب حساس بهذه الدرجة أمراً عادياً أو مقبولاً في ذاك الزمان، ما أدى إلى أن يتعرض لمسلسل تضييق تلا ذلك. وكان لافتاً أنه التزم بعدم إعلان الاستقالة على الملأ حتى كشف عنها أديبنا الراحل خالد سعود الزيد، رحمه الله، في مقالة نشرها بمجلة البيان الصادرة عن رابطة الأدباء سنة 1981.

سألته عن سبب استقالته، وإن لم يكن هناك سبيل آخر للتعامل مع الأزمة، أجابني بهدوء، لم يكن هناك طريقة أخرى، فقد عدت من مصر بعد حصولي على التأهيل العالي لكي أرتقي بالخدمة الشرطية في بلدي، ولذلك رفعت شعار الشرطة في خدمة الشعب، وفوجئت أن المطلوب مني هو قمع الشعب، وأن القمع هو الهدف الرئيس لأجهزة الشرطة، وهذا ما لم أستطع قبوله، فاستقلت.

بعد الاستقالة

وهكذا ما ان استقال القطامي من الشرطة حتى انخرط رسميا في العمل السياسي، وأصبح عنصرا فاعلا في التيار القومي بامتداداته المتنوعة. وكان ان جرت انتخابات لاحقاً، إلا ان السلطة اعترضت على فوز جاسم القطامي وعبدالرزاق الخالد رحمهما الله ود. أحمد الخطيب أطال الله في عمره. وعندما تم إعلان الوحدة بين مصر وسورية وأعلنت الجمهورية العربية المتحدة، ظن هو ورفاقه أن حلمهم القومي قد تحقق، ولكن ذلك الحلم حينها لم يكن الا سرابا.

وهكذا تم تنظيم احتفال كبير في ثانوية الشيوخ سنة 1959 بمناسبة مرور سنة على قيام الوحدة. كان الاجتماع حاشدا وتمت دعوة شخصيات عربية مؤثرة حينذاك، كما كان قد حضر الاحتفال بعض الشيوخ من الأسرة الحاكمة، وهنا ألقى خطابا حادا رفع فيه السقف عاليا، ومما قال «آن الأوان لحكم شعبي ديمقراطي يكون للشعب فيه دستوره ووزراؤه»، حينها كان ثمن الكلمة أقسى وأصعب، فلا قوانين ولا دستور ولا مؤسسية من أي شكل، فتعرض للاعتقال وتم سحب جوازه، وتم فصله من عمله كمدير لشركة السينما وفرضت إقامة جبرية عليه، وقامت الحكومة بدمج الشرطة بالأمن العام، فتجمدت الحالة السياسية حتى بدأت بواكير التحرك للدستور مع إعلان الاستقلال في يونيو 1961، وعندما شعر الحاكم الشيخ عبدالله السالم حينذاك بحاجته للناشطين السياسيين، طلب من القطامي ود. الخطيب مساعدته في مهمته العسيرة. وقد وافق الاثنان على دعم مسيرة الاستقلال، وتم تكليف القطامي بتأسيس وزارة الخارجية، وهكذا كان. اشترط القطامي علي عبدالله السالم ان يعفيه من الوظيفة الًحكومية، لأنه يجد نفسه بين الناس. وفعلا قام بتأسيس الخارجية، وحالما نادى المنادي لأول انتخٍابات برلمانية سنة 1964، قدم استقالته، وخاض الانتخابات وفاز فيها، وظل منذ ذلك الحين عمودا من أعمدة العمل السياسي بالكويت ولن تجد حدثا سياسيا له معنى منذ الخمسينيات وحتى قبيل وفاته، بل وحتى حين أقعده المرض داخل البلاد وخارجها، الا وتجد بصمة جاسم القطامي فيها وعليها. وان كان الحديث في ذلك يطول والتفاصيل لا تنتهي، فإن ما غرسه جاسم القطامي من قيم ومبادئ لاشك أنها أنبتت زرعا طيبا، وهو من هو في موقفه الرافض بوضوح ضد التمييز والعنصرية والطائفية والفئوية، وموقفه المنافح عن بناء مجتمع العدالة والمساواة والتراحم والإنسانية، فليرحمك الله رحمة واسعة فقد كفيت ووفيت وأديت واجبك وواجب غيرك.

القطامي... سيرة مشرقة

• جاسم عبدالعزيز عبدالوهاب القطامي من مواليد الكويت عام 1927، ولد في حي شرق من مدينة الكويت، من أسرة كويتية عريقة كان لها شأن كبير في الحياة الاجتماعية التي أرست قواعد البناء الوطني في أعمال البحر. تلقى تعليمه بالكتاتيب ومن ثم درس في المدرسة الشرقية والمباركية.

• سافر عام 1948 الى مصر للدراسة في المدرسة الابراهيمية ثم كلية البوليس التي تخرج منها عام 1952، والتي فضلها على كلية الطب التي كان مجموعه يؤهله للالتحاق بها. وجد ان الشرطة تناسب ميوله الرياضية أكثر، حيث كان يجيد ركوب الخيل والسباحة وكرة السلة وألعاب القوى التي حاز فيها ميداليات ذهبية عدة في بطولة جامعة فؤاد الأول عام 1951. شارك بدورة في كلية «هندون كوليج» وأصبح مديراً لشرطة الكويت في عام 1953.

• أشرف على قسم الرياضة في مجلة «البعثة» التي كانت تصدر من مصر ويرأس تحريرها الشاعر عبدالله زكريا الانصاري، واثناء تواجده في مصر عاش فترة ثورة يوليو 1953 وارتبط بها بعد قيامها وآمن بالتحرر الوطني والقومية العربية.

• خلع بدلته العسكرية، بعد أن قدم استقالة مكتوبة، وانضم إلى صفوف الكويتيين المتظاهرين تأييداً للزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر، وتنديداً باستمرار الهيمنة الغربية على مقدرات الوطن العربي (مصر تحديداً) اقتصادياً وعسكرياً إبان العدوان الثلاثي عام 1956، حيث كان العم جاسم أول مدير لشرطة الكويت.

• كان القطامي واحداً ممن لعبوا دوراً مؤثراً في الانتقال بالكويت من مرحلة الإمارة إلى مرحلة الدولة، وخاض مع رفاقه صراعاً ايجابيا حتى تم وضع دستور دولة الكويت بتوافق مع الشيخ عبدالله السالم رحمه الله.

• ما زال التاريخ يحفظ له خطابه الشهير في ثانوية الشويخ الذي رفض فيه أن تدار الكويت بالأسلوب «العشائري».

• وعلى امتداد التاريخ السياسي للكويت كان جاسم القطامي موجوداً، مدافعاً ومكافحاً من أجل كرامة الشعب وحريته، وحين علق الدستور بعد حل مجلس الأمة عام 1986 كان في ميدان المواجهة، وكان له الدور المحوري في دواوين الاثنين إلى جانب أحمد السعدون، أحمد الربعي، عبدالله النفيسي، أحمد الشريعان، عباس حبيب مناور... وآخرين.

• في عام 1988 كان أحد أبرز المؤسسين لجمعية حقوق الإنسان الكويتية والتي هي الفرع الكويتي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان.

• في الجانب الرياضي والاجتماعي... فهو أول رئيس للاتحاد الكويتي واللجنة الاولمبية، وهو من مؤسسي حركة القوميين العرب بالكويت في الخمسينيات ونادي الاستقلال في الستينيات والتجمع الوطني في السبعينيات.

• عمل مديرا في شركة السينما الكويتيه من عام 1956 إلى 1959، وفي فبراير 1959 ألقى جاسم القطامي خطابه الشهير في ثانوية الشويخ الذي طالب بدستور ديمقراطي وحكم نيابي، وبعدها بقي من غير عمل حتى سنة 1961 ثم عين من قبل أمير الكويت ابوالدستور الراحل عبدالله السالم مستشارا في الديوان الأميري. وبعد الاستقلال تأسست وزارة الخارجية فعين جاسم القطامي وكيلا بدرجة سفير في 27 مارس 1962، ثم استقال من الخارجية في يناير 1963 وكان من اشد المدافعين عن الكويت بعد اطماع عبدالكريم قاسم.

• عين بالمجلس التأسيسي في يناير 1963 ثم انتخب عضوا بمجلس الأمة في الدائرة الخامسة، وحصل على 1046 صوتا وحل بالمركز الأول واستقال عام 1966. وشارك في انتخابات مجلس الأمة (المزورة) 1967 في الدائرة الخامسة، وحصل على 601 صوت وحل بالمركز 6 وخسر. وهذه الانتخابات زورت بعلم الحكومة وكان جاسم القطامي من الموقعين على البيان الرافض لتزوير مجلس الامة، من ثم شارك في انتخابات مجلس الأمة 1975 في الدائرة الثانية وحصل على 598 صوتا وحل بالمركز الثالث وفاز بالانتخابات وبهذا المجلس حصل الانقلاب الأول على الدستور وتم حل المجلس، وشارك في انتخابات مجلس الأمة 1981 في الدائرة الثالثة، وحصل على 399 صوتا وحل بالمركز الثالث وخسر، ثم شارك في انتخابات مجلس الأمة 1985 في الدائرة الثالثة، وحصل على 649 صوتا وحل بالمركز الأول وفاز، وفي هذا المجلس حصل الانقلاب الثاني على الدستور وكان ايضا من الرافضين وخاض صراعا مريرا رافضا الحل، وشارك في التجمعات الشعبية في دواوين الاثنين وتم اعتقاله عام 1990 مع العديد من اعضاء مجلس الامة منهم د. عبدالله النفيسي. وشارك في انتخابات مجلس الأمة الكويتي 1992 في الدائرة الثالثة، وحصل على 392 صوتا وحل بالمركز الرابع وخسر.