في المشاهد الأولى من الفيلم الرائع (The Bucket List) يكتشف الميكانيكي كارتر تشامبرز أنه مصاب بالسرطان، وأن حظوظه من زمن الحياة المتبقية لن تتجاوز عدة أشهر أو عام بحسب أبعد تقدير طبي، ويصادف أن زميله في ذات الغرفة هو رجل الأعمال المليونير إدوارد كول مصاب بالسرطان كذلك، وليس له من العمر المتبقي إلا أشهر معدودة أيضا كما أخبره طبيبه المعالج، فتنشأ صداقة فريدة ما بين كارتر (مورغان فريمان) وإدوارد (جاك نيكلسون) وهما اللذان جمعتهما الظروف الغريبة في غرفة واحدة رغما عنهما، ولهذه الجزئية قصة لن أحرقها على من يود مشاهدة هذا الفيلم الإنساني البديع.
يعرض المليونير إدوارد على صديقه كارتر أن يقضيا الأشهر المتبقية من حياتهما في تنفيذ محتويات قائمة أعداها سويا أسمياها (The Bucket List)، أي قائمة الجردل، والمستوحى اسمها من التعبير الإنكليزي الشائع حين يقال إن فلاناً ركل الجردل أي أنه مات. وتضمنت القائمة أموراً منوعة، بعضها مغامر وبعضها ظريف وبعضها نبيل، كالقفز من الطائرة بالباراشوت، وقيادة سيارات سباق، والصعود إلى قمة الهيمالايا، وإدخال السرور على قلب إنسان، وتقبيل أجمل فتاة في العالم، وغيرها من الأمنيات.أمام هذا العرض المفاجئ المدفوع التكاليف بالكامل من قبل صديقه المليونير يواجه كارتر سؤالا صعبا: هل أقضي الأشهر الأخيرة من حياتي في تنفيذ هذه الأمنيات أم بجوار زوجتي؟ وهي التي كانت رافضة تماما فكرة ابتعاده عنها وعن عائلته للقيام بهذه الأمور المجنونة خصوصا في الأيام المتبقية من عمره. سأتوقف هنا عن سرد أحداث الفيلم، وسأنتقل إلى طرح ذلك السؤال الذي واجهني كما واجه كارتر سؤاله الصعب: أين يمكننا أن نرسم الخط الفاصل ما بين حق الإنسان لنفسه، وما بين واجبه تجاه من هم حوله من أهل وأحبة وأصدقاء؟! قد يبدو هذا السؤال سهلا جدا للوهلة الأولى لبعضكم، خصوصا صغار السن أو أولئك الذين لم يواجهوا تحديات حياتية تضعهم في مواجهة مثل هذا السؤال، لكنه، وصدقوني حين أقول ذلك، ليس بالسؤال الهين أبدا عندما يمضي العمر بالمرء فيجد نفسه وقد كبر وقد تكاثفت مسؤولياته وتشابكت علائقه إلى حد الاختناق!أغلب الناس في هذا الأمر على نوعين: إما أولئك الذين يقضون جُلّ أعمارهم يستنزفون أنفسهم وأرواحهم لمراعاة وخدمة الآخرين من حولهم، وإما أولئك الذين يعيشون أغلب وقتهم لإسعاد أنفسهم وتلبية رغباتهم الذاتية فحسب، فلا يكادون يكترثون بغيرهم، أما الذين يعرفون كيف يضبطون هذه المعادلة الدقيقة ما بين حق النفس والواجب تجاه الآخر فهم القلة القليلة.صحيح أن نبينا العظيم عليه الصلاة والسلام علمنا أن "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها"، إلى آخر الحديث الذي يوضح مسؤولية الإنسان تجاه الآخرين، لكن ذلك لم يعن بأي شكل من الأشكال أن يكون الأمر على حساب النفس، فقد ورد في صحيح البخاري أيضا أن الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه قد قال: "إن لربك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، ولزورك –أي ضيفك– عليك حقّاً، فأعط كل ذي حق حقه". وحين سمع النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قال: "صدق سلمان"، وهذا هو الذي يبين الكفة الثانية من ميزان معادلة حق النفس والآخرين، بل إن حق النفس قد جاء من بعد حق الله عز وجل مقدما على كل الحقوق الأخرى، وهذا هو السر في إدارة الحياة الناجحة، فحين لا يعتني الإنسان بصحته الجسدية والنفسية والفكرية، ولا يفرد لها الوقت والجهد الكافيين للحفاظ عليها ولاستعادة النشاط والتجديد، فإنه سرعان ما سيسقط أو لعله سينهار تماما تحت وطأة المسؤوليات والضغوط المتلاحقة، فلا هو أسعد نفسه حينها ولا هو أسعد غيره!لا أتمنى أن يواجه الواحد منا لحظة أليمة كتلك اللحظة التي واجهها كارتر في الفيلم فاكتشف حينها أنه لم يعط نفسه عبر سنوات عمره حقها من الفرح، فقرر أن يلاحق ما فاته في اللحظات الأخيرة، ولكنني أتمنى، وهذه نصيحة أوجهها لنفسي أولا، أن ننتبه إلى أنفسنا في المقام الأول، وقبل فوات الأوان، حتى يمكننا من بعد ذلك أن نقوم بإعطاء كل ذي حق حقه ممن هم حولنا!
مقالات
«لنفسك عليك حقا»!
14-05-2013