«العرب وطبائع السلطة» لوفيق رؤوف... كواليس الشرعية المتضاربة
صدر أخيراً عن «منتدى المعرف» كتاب «العرب وطبائع السلطة.... كواليس الشرعية المتضاربة» للكاتب والباحث العراقي وفيق رؤوف. ويؤرخ لواقع الدولة العربية وقيامها وأطوارها.
يعتبر الباحث العراقي وفيق رؤوف أنه إذا كان دخول العرب إلى التاريخ الكوني الفاعل والمتفاعل منذ القرن السابع الميلادي هو التحول، فإن هذا الحدث هو الذي يؤرخ لقيام الدولة كمعمار إمبراطوري، لكن بمواكبة التباسين متزامنين. الدولة بالسلطة وبالعقيدة الدينية أيضاً، أي التسييس بالتقديس، بإضافة قلة وضوح حول النظام الأمثل بدليل العبور السريع من الاستخلاف الشوري إلى التوريث العائلي، ببقاء الإسلام محكاً للشرعية.أما في العصر الحديث، يقول رؤوف في كتابه «العرب وطبائع السلطة.... كواليس الشرعية المتضاربة»، فإن إشكالية الدولة العربية قد تمثلت بتضارب الأعراف التشريعية، صراع موازين القوة بين التقليد والتجديد وصعوبة محاولات الفكر النهضوي إنجاح مقومات النقلة الحضارية. المواجهة بين «دالات» الثلاثي: دولة- دين- دنيا. يضاف إلى ذلك اضطراب هوية الدولة- السلطة التي تتراوح بين النموذج الملكي أو الجمهوري، المدني أو العسكري، مقابل فوضى الدال والمدلول لمفردات رائجة كالانقلاب الذي يعادل مفهوم الثورة، أو الثورة المحمولة على تصور الانتفاضة والتمرد.
روابط التأزميحاول رؤوف من خلال كتابه تحليل آليات روابط التأزم، احتقانات التواصل والتضاد بين الحاكم، الحكومية والمحكوم باتباع التبعية. ينظر الكاتب إلى هذا الجزء من احتباس التفاعل بين السلطة، الدولة كطليعة للقيادة السياسية وبين المجتمع المُقاد، بالأحرى المنقاد، كإحدى حلقات التأزم، من بعض الأزمنة الأكثر عمقاً وتشعباً، تلك المتعلقة بـ{تعليق» رجاء النجاة الحضاري على رغم جهود أكثر من جيل منذ القرن التاسع عشر.يعتمد المؤلف التركيز على تفكيك آليات ومحركات مفهوم السلطة وتداعيات الثقافة السياسية العربية عبر مرور أزمان التاريخ، فإنه في الوقت نفسه يحاول تجنب التورط في الأحكام المصاغة استباقاً. فلا الاستبداد ولا القهر المتسلطان محصوران بثقافة بنيوية لقوم من الأقوام بالاقتصار الحكري. صحيح أن الطبيعة الإنسانية أغلب لأنها الأصل، لكن الصحيح كذلك ألا فصيلة بشرية تستبطن بفطرة السليقة خاصية مترسخة من خواص التعامل المتآلف مع آليات الظلم والهيمنة القهرية. تحولات الحاضرباستعادة أوليات الخصوصية التاريخية لثقافة الحكم ما قبل الحدث الإسلامي وما بعده، وصولاً إلى الأزمنة الحديثة، فإلى آنية تحولات الحاضر، يتأمل رؤوف في وجوب إفصاح الحقائق، مسلسل الوقائع بلا التوظيف المداور أو المباشر للاتهام أو الإدانة، بل اعتماد محاذرة في شقين: أولاً، على رغم كون المؤلف جزءاً معنياً، بحكم انتماء الهوية الثقافية، بعلاج مادة الموضوع، فقد ارتأى رؤوف تجنيب التصورات النقدية إسقاطات التجديف والقنوط بتحميل الذات الجماعية، وهي المصابة حقاً بعلة تضخم التأزم والتشرذم، ذنوب الإشكاليات المتوازية والمتقاطعة أيضاً. ثانياً، في مقابل ذلك، وانطلاقاً من هذه القناعة، ابتعدت الدراسة عن اعتماد أسلوب المرافعة القضائية لجهة عدم أهلية، تأهيل الأوضاع العربية للخروج من طوق الاحتقانات للتوجه نحو رحاب حرية التعبير عن الرأي والرأي الآخر بدلاً من الانفراد بالقرار- التأحيدي.إذاً، تضمن طرح مساقات الإعضال التمييز بين مفهومين، تصورين للسلطة كقوة نافذة ومتنفذة في مقابل الدولة كبنيان لدواليب إدارية وتشريعية متشعبة. فقد تكون السلطة آلية قائمة بذاتها، خاضعة لنفوذ، ربما لسطوة الحكم، فيما الدولة عبارة عن تراكم من دورة ديناميات مؤسساتية، شريطة سيادة الرقابة القانونية، وهي في هذه الحالة راعية للسلطة. أما في نموذج الدولة المطلقة، فإن نواظم الأجهزة السياسية والاقتصادية والإعلامية تذوب في جهاز السلطة- التسلطية ذات قرار الرأي الأحادي والانفرادي. فهي التوتاليتارية التي قد تتأسس وتعبر عن نفسها سواء من خلال فردية الزعامة الوحدانية، عبادة الشخصية أو القيادة الجماعية لحزب أو أيديولوجيا يختصران الدولة في آلة، آليات القهر السلطوي. ففي هذه الحالة لا مجال للبحث والسجال عن أي هامش كان للشرعية التي تمر، مبدئياً، من قنوات التفاعل بين الحكم والمجتمع وفيها. أما مجتمع الأمة الحيوية فهو ذلك القادر على التشيؤ إلى سلطة موازية- رقيبة للسلطة السياسية كما هي الحال في المجتمعات التي تمخضت عن نواتج حداثة القرنين التاسع عشر والعشرين.تصدعات التجربةتأتي محاولة رؤوف هذه في سياق إيجاد العلائق بين تصدعات التجربة النهضوية والتحديثية العربية، وبين إطلاق معمار الكيانات الدولتية لا بتأسيس معايير مقارنة، أقله مع التجارب الأخرى كالغربية تحديداً، بل باستقراء الأسباب المتعلقة بالتاريخ العربي نفسه. أما استعادة المعطيات، ماضي هذا التاريخ وحاضره، فتأتي من قبيل استيعاب المقاربات- الممكنة للأوليات واللواحق حول تشكل مفهوم دولة الحكم والسلطة السياسية عبر تحولات مسارات الزمن حيث جاء الالتباس، وأحياناً التلبيس، بإقدام الدولة على توظيف العقيدة الدينية للتعويض عن الشرعية الناقصة. فبعض نماذج الحكم العربية، أو جلها، قائم في الدرجة الأولى على هيمنات الأسرة والقبيلة، الفئوية والجهوية، الحزب ومشروع التوريث الجمهوري الآيل إلى التصدع، الدولة ذات الطابع المدني أو العسكري، أو تلك التي تخلط بين الاثنين بهدف تمويه الواجهة على المخفي في كواليس نفوذ مراكز القوى المتنفذة.يضيف وفيق رؤوف، أنه بمقدار ما يتحرك الوعي الجماعي بفعل وتفعيل الحس الديني لمواجهة تحديات عوامل تهديدات الهيمنة الأجنبية، تأتي قدرة الحركات السياسية على توظيف وترويض هذا المحرك لصالحها، من قبيل التلاعب بالوسيلة وتحويلها في اتجاه الهدف الأيديولوجي المطلوب. فهنا يكمن أحد محددات مأسسة الدولة العربية في الحقبة ما بعد الكولونيالية. توليف المزج بين التقليد المضطرب والتجديد المبتسر لتستمد الدولة بعدئذ، التحاق النتائج بالأسباب، من معين ذلك الحصاد المرير ثمار إخفاقاتها المتأتية من تراجع وتردي تحديات التحديث. فهي التي كشفت عن عورات عجزها المتواصل وتلاحق رثاثة صدقيتها وترّهات هيبتها تجاه غليان وفورة مرجل الغضب الآتي كفجأة هبوب عاصفة قد تكون حبلى بأخطار تواصل التطاول المتبادل بين بشائر التمرد والتذمر من عبء الكابوس الذي لم يعد يطاق، ودولة السلطة المثيرة لما هو أبعد من التحدي أو التصدي لها.