الساحة الدولية كما شهدتها وخبرتها، ليست ساحة خيرية، وليست أولويتها للعمل الإنساني، ولكنّ تراكمات التغيير، وزيادة الوعي عبر البرامج التعليمية المتخصصة، وبروز دور المنظمات الدولية غير الحكومية، وتشكيل رأي عام عالمي ضاغط على الحكومات، في قضايا كبرى عديدة، كالديمقراطية والسلام والبيئة وحقوق الإنسان، جعلت الحكومات المتسلطة ونصف المتسلطة وغيرها، تتشابه في خطابها الإنساني، رضوخاً لواقع جديد، حتى لو كانت تلك الحكومات غير مقتنعة بها، وهي غالباً كذلك. صرنا نجد خطاب الحكومات متشابهاً، بل إن خطاب الحكومات القمعية بالذات شهد تطوراً ملحوظاً في اتجاه "أنسنته". حتى نهاية الحرب الباردة في نهاية تسعينيات القرن الماضي، كانت خطابات وممارسات "القمعيات" متطابقة دون تناقض، فتجد قلة من تلك الدول تبذل جهداً يذكر في تحسين أدائها الإنساني. أما بعد التحولات الدولية ودخول عشرات الدول في الإطار الديمقراطي، فقد صارت الحكومات تلقي خطابات مفعمة بالإنسانية، بينما ممارساتها مناهضة للإنسانية، بل إن أغلبية الدول طورت مؤسسات متنوعة، للدفاع عن نفسها في المحافل الدولية، وأغلبها مطروح على أنها منظمات مستقلة للتناسق والانسجام مع التحولات الدولية في المجال الإنساني.

Ad

هذا التحول انعكس بشكل حاد على طبيعة تداول القضايا، وأصبح الصراع بين المنظور "الإنساني" وتمثله في الغالب منظومة غير حكومية، ترى في كرامة الإنسان منطلقاً للعدالة والسلام والرخاء والاستقرار، والمنظور السياسي، وتمثله مجمل الحكومات والعنصريين والفئويين الذين يرون الدنيا حكراً على فئتهم وجماعتهم وعرقهم فقط. ويجري الخلط هنا بين الأطراف المتنازعة، وإن كان عدد دول "المرجعية الإنسانية" آخذاً في التزايد. الصراع بين الإنساني والسياسي صار عنواناً للمنظومة الدولية ونمط تداولها وقضاياها، ويحدث في طياتها خلطاً ولبساً لا نهاية له، كما أنه صراع طويل الأمد، تخرج من طياته تجليات يفاجأ بها الجميع كما سنرى.

***

طالب رحل بدون هوية: عندما أبلغني بحزن الصديق سعود العنزي بوفاة الطالب سعيد العنزي، أصابتني غصة وحالة صمت. فقد انسحب من بيننا دون أن نعلم، بصمت وهدوء، بعد صراع مع المرض، وإن كان صراعه مع من تجردوا من إنسانيتهم أشد، ورحل عنا وهو "بدون"، ولد في الكويت ومات فيها، ومازال يبحث عن هوية. لم يتوقف عن العمل منذ عرفته لقرابة ٣ عقود، ولم يبخل بعطاء، وبخل عليه مجتمع بمجرد هوية، فليرحمك الله وليغفر لك ولنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.