لعل الوقفتين في المقالين السالفين ما كانتا غير توطئة مبدئية قد تصلحان كخلفية مناسبة للانطلاق من العام إلى الخاص، أو من الآخر المنكشف إلى الذات المستسرّة المتكتمة التي تحاول أن تتراءى من خلال الثقوب والفجوات. وها أراني وأنا بصدد الكتابة عن «تجربتي الشعرية» إزاء امتحان عسير ولا شك. فأي طاقة يحتاجها الكاتب حينئذ؟... أي شجاعة؟! بل أي قدرة تلك التي تطمح إلى صياغة الإنسان وانتهائه إلى نَسَق نفسي وروحي على شيء من التلاؤم، بعد طول افتراق بين ذاته الكامنة وذاته الظاهرة؟ ذاته الكامنة التي تلوذ بالشعر، وذاته الظاهرة المتدثرة بالرصانة واللياقات والأقنعة اليومية.

Ad

مَنْ يستطيع أن يجتاز هذا البرزخ ليوحد بين العري الباهر والإتكيت والملابس الرسمية؟! أو بين البريّة المنفلتة وأضواء النيون والصالات المستريحة؟! من يستطيع أن يفعل ذلك دون أن يسقط في محرقة الروح؟! ليس هناك من طاقة يمكن أن تصنع للإنسان الاكتمال والنسق، والكتابة عن التجربة الشعرية مهما بلغت درجة حميميتها وصدقها، لن تلامس غير الحافات والحدود، وسوف تلهث دون القلاع المتأبّية والنوافذ المسدلة، التي تظل خيالاً وغباراً ومطامحَ وغايات شوق.

هذا التأرجح بين الكمون والظهور ما كان جدلية نفسية ومقصلة وجودية فقط، بقدر ما يأتي ثمرة من ثمار التنشئة، ولوناً من ألوان الطيف لتربية بيتية ومجتمعية تميل إلى رسم حدود الشخصيات وتسييجها بالتحفظ أو الرصانة أو الاكتفاء أو اللامبالاة. وأمام تلك المسارب المغلقة والأبواب التي أضاعت مفاتيحها، تتقلص مساحات التعبير والبوح والمكاشفة، وتنكمش الذات كقوقعة ملقاة على ساحل مهجور.

ولعل الصراع الخفي بين الذات الكامنة والذات الظاهرة كان قد بدأ منذ الإطلالة الأولى على المدرسة، حين يدعونا عالم آخر: درس «التعبير» ودرس «الرسم»، وهناك أناشيد ونصوص شعر تبوح بأسرارها، وهناك موسيقى وآلات عزف، وهناك مسرح كأنه عريشة من عرائش الجنة نقفز في أفيائه بالشرائط والأوراق الملونة متقمصين الأزها والعصافير. عالم يضجّ بالتعبير عن الحياة والبوح بأبجديتها الأولى.

وعلى قدر ما كانت المدرسة سخية بروحها المفعمة بالحياة، كانت كذلك سخية بأفيائها ومشاهدها وأبهائها الظليلة وحديقتها الغنّاء. وهناك أيضاً حظائر الأرانب والبط والوزّ وأقنان الدجاج والكتاكيت ووقوقات الدواجن. هذا الاندياح في عالم ملوّن وفسيح –بمقياس قامة طفلية- وعالم مُعبِّر ومنكشف على مباهج الروح الغضة ودهشتها، تعزّز باندياح آخر نحو تحسس الذات وفهم حاجاتها. ويبدو أن الإنسان منذ الوعي الباكر بكينونته يبدأ بالالتفات إلى ذلك الفراغ الذي يغلفه، والذي يشعره بالذوبان والسقوط، وعليه لتدارك ذلك أن يتشبث بمساند ودعائم تبني ذاته وتحددها وتؤكّد ملامحها، وتخلصها من الضعة والهشاشة واللون الحائل. ومن هنا يتخذ الإطراء والتشجيع في الفصل وقعاً آخر، وقد تأتي كلمة عابرة لمعلمة رؤوم فتكون فرصة نادرة لمباهج الروح. حينها يكتشف أحدنا أنه «موجود»، وأن له روحاً وجسداً، وأنه لم يعد سقط متاع أو مجرد شيء من الأشياء!

لم تكن المدرسة –بكل تواضع عالمها وصغره– نافذتي على الحياة فقط، وإنما كانت أيضاً نافذتي المبكرة على انطلاقة الوجدان ودبيب المشاعر، وحماقات الصبا ومراراته. ويبدو أن الحياة المدرسية بما تكرّسه من قيم المنافسة والسبق، والثواب والعقاب، تظل دوماً هي المحرك الأول «للأنا» البازغة، تشحذها كي تهتز وتربو، وتتغلب على هشاشتها وعدميتها. وربما تنكؤها بقسوة لتستخرج دَرَناتها وجذورها المغروزة في الطين.

ورغم ما انطوت عليه الحياة المدرسية من انتصارات وخيبات، ومن تسلّق مؤلم أو تأرجح فارغ، يظل لتلك الحياة زخمها المعرفي والنفسي والعاطفي، وتظل بصورة ما كوناً ذا حركة ومَوَران، نرى أنفسنا بين عطفيها نكبر وننمو وتستطيل غصوننا، ونرى أنفسنا نتسلق درجاتها ومراحلها مفعمين بالانتظار والتوقع واللهاث.