من الأسئلة التي تُلح علي حين أسعى إلى السينما واحدٌ عن بلدان أوربا الشرقية، التي كانت معسكراً اشتراكياً ذات يوم. لمَ كانت أفلام مخرجيها، ومازالت بعد زوال أنظمتها الشمولية، أفلاماً تميل إلى الجدية ورفعة المستوى. مبرأة بصورة عامة من السطحية والضرر اللذين يحصدهما المشاهد من معظم الأفلام الغربية والأميركية بصورة خاصة؟ هل السبب قائم في الحرية وغيابها، القمع وغيابه، الرقابة وغيابها..؟

Ad

وهل هذا يعني، إذا انتفعنا من المنطق، أن الحرية الغائبة والقمع والرقابة عناصر تحفز باتجاه المستوى الجدي ورفعة المستوى؟ أعتقد ذلك. ولكن اعتقادي لا يعني أن الحرية والديمقراطية توفر الرداءة والسطحية وحدهما. الحرية توفر كلا السطحية والجدية على صعيد النوع. ولكن تفيض السطحية على صعيد الكم. وهذا ما نراه في الفيلم الأميركي مقارنة بالفيلم البولندي، على سبيل المثال.

أفلام رومانيا التي حكمتها قبضة "تشاوشيسكو" الحديدية ليست استثناءً. رأيت مؤخراً فيلمين للمخرج الروماني الشاب "كريستيان مونجيو" (مواليد 1968): "أربعة أشهر، ثلاثة أسابيع ويومان"(2007)، و"ما وراء التلال" (2012). له فيلم سابق عنوانه "بلاد الغرب"، وأفلام قصيرة أخرى لم أرها. وسأقتصر في الحديث على فيلمه الأخير.

الفيلم يدور في معظمه في دير أرثودوكسي معزول على المرتفعات، يقيمُ فيه راهب رجل وراهبات، في مولدافيا عام 2005. فويتشينا وآلينا تربيتا معاً في دار للأيتام، وعلى علاقة عاطفية متينة. وبفعل أذى الحياة تلوذ الأولى لهذا الدير ساعية لحب الله، في حين تهاجر الثانية للعمل، ولكنها تعود بفعل حبها لفويتشينا. حبان غير متناغمين: حبٌّ دينيّ آمن وآخر دنيويّ بالغ الاضطراب. تتوسل فويتشينا براعي ديرها أن يستضيف آمينا فترة، ولكن الاضطراب يقود الأخيرة إلى انهيارات عصبية لا شفاء منها. يحاول المستشفى العلاج، ولكنه علاج لا مبالٍ. ويحاول الدير ولكن علاجه مميتٌ. فرجل الدين ونساؤه يرون في آلينا كياناً غير مؤمن، وينتسب إلى رداءة الحياة الأرضية البعيدة. وبفعل الرحمة في قلوبهم يسعون إلى معالجة امرأة يرون أن الشيطان قد تلبسها. وسعيهم كان صادقاً بالتأكيد. في واحدة من انهيارات آلينا الهستيرية تُربط إلى لوح، ثم ينصرف الراهب إلى معالجتها بالصلوات والتعاويذ.

وتُترك بعد هدأتها مكبلة في غرفة معزولة. وبفعل البرد، والتعب، والجوع، وانكسار القلب، تغادر الحياة، وهي تنظر إلى صديقتها هادئة مبتسمة.  

إذا كان هذا الاعتماد الكلي في حكاية الفيلم على الحب الإلهي عند فويتشينا أو الحب الانساني عند آلينا يشكل المحور الأول في الفيلم، فالمحور الثاني كامن في اللامبالاة المريعة التي تتسم بها الحياة والناس. المخرج يعرض، بموقف حيادي، واقعين في حالة تصادم. فالراهب والراهبات، الذين كانوا سبباً في موت الشابة المسكينة، هم كيانات خيرة. وسعيهم إلى إنقاذ الانسان من براثن الشيطان صادق. وبالمقابل يبدو تعامل الدكتورة التي تستقبل آلينا الميتة باعتبارها مجرد جثة من الجثث المتتالية، وكذلك الشرطة التي تتحرك دون مشاعر، ليس وليد خبث بشري بل وليد لا مبالاة.

المخرج يظهر بقصدية مدى جمال وبساطة الدير، اللذين تضفيهما العزلةُ والابتعاد عن درَن المدن وحياتها. وانتماء آلينا إليه ساعية إلى الأمان يبدو منطقياً. ولكن غير المنطقي كامن في جوهر كل هذا. نتبينه في حرمان فويتشينا من الحب، ومن الحياة أيضاً. الفيلم يعرض لنا لا مبالاة سلطة العالم، وسلطة الطبيعة معاً.

آخر مشهد في الفيلم يتم داخل سيارة الشرطة، حيث يُقاد الراهب والراهبات. السيارة تتوقف عند الضوء الأحمر، الراهب يطمئن الراهبات، فلا خوف مادام الله معنا. الشرطي المرافق يسلي صاحبه بقصة جريمة قتل مريعة. في الخارج يتواصل المطر، وعامل مع مثقاب حجري يصدر ضجيجاً في الشارع. شاحنة ضخمة تمر وترشق الزجاجة الأمامية لسيارة الشرطة، والتي تملأ الشاشة، بحفنة وحل سوداء قذرة.