مدائح أم كلثوم... المطربة في مرتبة السلطان
يلاحظ المهتم بسيرة أم كلثوم الفنية والاجتماعية الثناء والاهتمام الواسعين اللذين حظيت بهما {كوكب الشرق}، سواء من خلال كتابات نقدية وترويجية لفنها أو عبر رسمها تشكيلياً أو الاستلهام منها في عروض الأزياء، فضلاً عن حضورها الواسع في عالم الروايات والمسلسلات الدرامية.
و{الحنجرة الذهبية} التي أطربت العالم العربي بأشعار مغناة، قيلت فيها قصائد كثيرة جُمعت أخيراً في كتاب.
و{الحنجرة الذهبية} التي أطربت العالم العربي بأشعار مغناة، قيلت فيها قصائد كثيرة جُمعت أخيراً في كتاب.
كان الصوت الكلثومي في أسماع الشعراء كافياً لانبعاث قصائد المدح عن صوت {كوكب الشرق} وأغانيها وحياتها. يبدو بعض الكتابات عنها ركيكاً فيما يأتي البعض الآخر مرآة لصوتها وجمهورها وتأثيرها عليه. والحال أن أم كلثوم إحدى الشخصيات الفنية القليلة التي حظيت بكم كبير من القصائد إلى جانب فنانات أخريات كُتب عنهن عدد لا بأس به من أشجان وخواطر وقصائد، أبرزهن سعاد حسني وفيروز.ونَظْم القصائد في أم كلثوم لم يقتصر على فئة محددة من الشعراء بل شمل العشرات منهم، سواء من التقليديين الكلاسيكيين كأحمد شوقي ومعروف الرصافي أو من المجددين كجبران خليل جبران، أو من شعراء الحداثة والريادة كبدر شاكر السياب وأروخان ميسر. وجاب مدحها العراق وسورية ولبنان والسودان والسعودية، وحطَّ كلاماً موزوناً بليغاً في قصائد شعراء لم تغني لهم، وآخرين لم تعرفهم.
حتى الإسرائيليون لهم حصة في الكتابة عن {كوكب الشرق}. يشير الباحث المصري إبراهيم عبد العزيز أبو زيد إلى نص قصيدة عنوانها «خرقة مطرزة. قصيدة عن أم كلثوم» ترجمها سلمان مصالحة للشاعر الإسرائيلي روني سوميك، يروي فيها مشاهدته لأم كلثوم وهي تغني «عودت عيني على رؤياك».يرصد عبد العزيز أبو زيد في كتابه «أم كلثوم في الشعر العربي»، الصادر عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية»، نحو 80 قصيدة كتبها شعراء عرب في مدح أم كلثوم. يسجل أن «أمير الشعراء» أحمد شوقي كتب أولى قصائده فيها في افتتاح معهد الموسيقى الشرقي في القاهرة يوم 26 ديسمبر 1929، مخاطباً ملك مصر آنذاك أحمد فؤاد قائلاً: «لما بنيت الأيك واستوهبته... بعث الهزار وأرسل الورقاء»، قاصداً بالهزار محمد عبد الوهاب وبالورقاء أم كلثوم.يقول أبو زيد إن شوقي ذكر اسمها صريحاً عام 1931 في قصيدته «سلوا كؤوس الطلا» التي كانت من بين بضع قصائد له غنتها أم كلثوم بعد وفاته. ويوضح أن عباس محمود العقاد، الذي لم تغن له أم كلثوم شطراً، كتب قصيدة عنوانها «كوكب الشرق»، وهو لقب استحقته بمناسبة عودتها من مستشفى البحرية الأميركية بعد خضوعها لجراحة الغدة الدرقية عام 1949. ألقى العقاد قصيدته يوم 19 نوفمبر 1949 في حفلة في معهد الموسيقى العربية. يقول في مطلعها: «هلل الشرق بالدعاء... كوكب الشرق في السماء».في فنون الأغانياختار الشاعر العراقي معروف الرصافي (1875 1945-) بدوره أن يبدأ قصيدته {إلى أم كلثوم} بهذا البيت:أم كلثوم في فنون الأغانيأمة وحدها بهذا الزمان.هي في الشرق ربة الفنفما أن للفن رب ثانويورد المؤلف قصائد في أم كلثوم كتبها عراقيون، أبرزهم جميل صدقي الزهاوي وجواد الشبيبي ومحمد بهجة الأثري وإبراهيم الباجه جي، وبدر شاكر السياب الذي نظم قبل موته بعام قصيدة {أم كلثوم والذكرى} ويقول في مطلعها:وأشرب صوتها فيغوص من روحي إلى القاعويشعل بين أضلاعيغناء من لسان النار يهتف سوف أنساهاوأنسى نكبتي بجفائها وتذوب أوجاعيوأشرب صوتها فكأن ماء بويب يسقينيوأسمع من وراء كرومه ورباه ها ها هو ترددها الصبايا السمر من حين إلى حينوأشرب صوتها فكأن زورق زفة وأنين مزمارتجاوبه الدرابك يعبران الروح في شفق من الناريلوح عليه ظل وفيقة الفرعاء أسود يزفر الآهاسحائب من عطور من لحون دون أوتاروأشرب صوتها فيظل يرسم في خيالي صف أشجاروينهي السياب قصيدته: {ولكن. ما تبقى بعد من عمري؟ وما الأبد... بعمري أشهر ويريحني موت فأنساها}.كذلك يورد الكتاب قصائد في أم كلثوم كتبها شعراء من سورية، من بينهم أورخان ميسر وزكي المحاسني ورشاد علي أديب ويوسف العظم وعبد الفتاح كواملة. ومن السودان محمد المهدي المجذوب، وصاحب {أغداً ألقاك} الهادي آدم الذي رثاها بقصيدة عنوانها {يا أم كلثوم اغفري}. حتى اللبناني جبران خليل جبران يخاطب بقصيدة أم كلثوم قائلاً: {أنت نابغة الزمان. بلغت من عليائه ما ليس يبلغ بالأماني}. كأن الكتابة عن الشخصيات ذائعة الصيت والملوك والسلاطين صيحة رائجة في سجل الشعر العربي، ربما تشكِّل ركناً من أركانه بدأ بالتلاشي في العقود القليلة الماضية مع بروز قصيدة الحداثة التي ألغت ما يمكن تسميته قصيدة البلاط أو قصائد المدح والزجل.أحمد رامييقول أبو زيد إن أحمد رامي أبرز شاعر عرف الجمهور قصائده عبر صوت أم كلثوم، بل أن دارسي شعره {تعاملوا مع قصائده كلها بوصفها قيلت في أم كلثوم، أو على الأقل ارتبطت بها بشكل أو بآخر}، على اعتبار أنها كانت ملهمته. والنافل أن قصة {كوكب الشرق} مع أحمد رامي تبدو أكثر من مجرد قصائد. كتب الروائي اللبناني سليم نصيب رواية عن علاقتهما بعنوان {أم}، فيها يحاول تاريخياً إحياء الحياة الأدبية والغنائية في مصر، وذلك في عشرينيات القرن الماضي حتى وفاة الفنانة التي كانت ملهمة الشاعر. ورامي الذي نتعرف إليه في الرواية قد لا يكون هو نفسه الذي نقرأ عنه في الحقيقة، فنلاحظ أن الكاتب يحاول العزف على فكرة الحب الكامن في قلب الشاعر والمغنية وبناء خط درامي يسمح له بقراءة توترات الداخل النفسي لدى رامي وتقلبات الواقع السياسي. وكان الناقد محمد مندور وصف العلاقة بين الشاعر والمغنية بالأسطورة، فقد كتب لها رامي 137 من بين 383 أغنية قدمتها في مشوارها الفني. تلك علاقة رضيت فيها أم كلثوم بأحمد رامي الشاعر ورضي الأخير بأن يكون درويشاً في محراب غنائها، فقد أسرت الفلاحة صاحبة الصوت الأيقونة كيان الشاعر منذ شاهدها لأول مرة في مسرح حديقة الأزبكية حيث غنت له أغنيته التي قدمها لها أبو العلا محمد وصار اسمه على كل لسان.ويرصد كتاب أبو زيد أن رامي عاد من باريس يوم 21 يوليو 1924، وبعد ثلاثة أيام استمع إلى أم كلثوم تغني قصيدته {الصب تفضحه عيونه} التي لحنها الشيخ أبو العلا محمد، فطرب لها وكتب فيها قصيدة {إليها}، ويقول في مطلعها: {صوتك هاج الشجو في مسمعي... وأرسل المكنون من أدمعي}.وبعد وفاتها عام 1975، أدمعت ريشة رامي كلامات ترثو الملهمة:ما جال في خاطري أني سأرثيها بعد الذي صغت من أشجى أغانيها. قد كنت أسمعها تشدو فتطربنيواليوم أسمعني أبكي وأبكيها.صحبتها من ضحى عمري وعشت لهاأذوق شهد المعاني ثم أهديها}