لم أكن أعرف أن المطربة الكبيرة شهرزاد لا تزال على قيد الحياة حتى فوجئت بحفيدتها المخرجة الشابة هبة يسري تنعيها للأمة، وتؤكد أن أفراد عائلتها اكتشفوا وفاتها عند توجههم لإيقاظها في الصباح، ووجدوا أنها فارقت الحياة فدفنوها في مقابر الأسرة في مدينة نصر.

Ad

المثير أن أخباراً أكدت أن الموت غيب شفيقة محمد السيد الشهيرة بـ{شهرزاد»، وهي في الثمانين من عمرها بينما بثت وكالة أنباء الشرق الأوسط الحكومية الخبر مصحوباً بتأكيد أنها رحلت عن عمر يناهز الخامسة والثمانين، حسب حفيدتها المخرجة هبة يسري، التي أنجزت عنها فيلماً وثائقياً بعنوان «ستو زاده». أتاحت لي الظروف فرصة مشاهدة الفيلم في الدورة الثامنة من «لقاء الصورة»، الذي نظمه المركز الفرنسي في القاهرة، وأدركت وقتها أن الأقدار كانت سخية للغاية مع الحفيدة التي وجدت نفسها في منزل واحد مع مطربة عظيمة امتلكت حنجرة ذهبية كانت سبباً في حماسة الموسيقار الكبير رياض السنباطي لها والرهان عليها، حتى ذاعت شهرتها في خمسينيات القرن الماضي. لكن الفيلم، الذي يُفترض أنه ينتمي إلى السينما التسجيلية يبدو غالباً وكأنه «ريبورتاج» تلفزيوني، ربما لأن مخرجته عملت فترة طويلة بالفعل كمخرجة تلفزيونية، فضلاً عن إيقاعه المترهل نتيجة زخم المادة التي صورتها الحفيدة مع الجدة، وأبت أن تفرط في لقطة منها، لقناعتها، وهذه حقيقة، بأنها في صدد وثيقة مرئية تاريخية!

أهمية فيلم «ستو زاده» لا تكمن في صدقه وواقعيته، واللحظات الحميمية التي جمعت الجدة والحفيدة، وإنما في إشارته ذات المغزى إلى التزمت الديني الكبير الذي طرأ على شخصية يسري، نجل المطربة شهر زاد ووالد مخرجة الفيلم، ودفعه إلى رفض عمل أمه، لقناعته بأن «مكان المرأة البيت»، وصدمته في عمل ابنته (مخرجة الفيلم) بالإخراج، غير أن الفيلم يبرر تزمته بإحساس الوحدة الذي كان يلازمه في ظل انصراف أمه إلى عملها، واهتمامها الزائد بالحفاظ على نجوميتها، وإهمالها رعايته.

بالطبع خصت الجدة حفيدتها بكثير من الصور النادرة، والرسائل العاطفية التي تروي قصة الحب الخالد في حياتها، واعترفت، في جرأة لم تكن غريبة عنها، بأن «أم كلثوم» كانت تشعر بالغيرة حيالها، لكن عاب الفيلم غياب الرؤية أو «الاستراتيجية» التي تبرر الهدف من الفيلم، وعدم انتظام السرد في سياق درامي واحد، وإصابة المخرجة بحمى «سينما المؤلف»، التي يستعصي على المخرج خلالها حذف أي مشهد كتبه؛ إذ وقعت هبة يسري في فخ التكرار، حتى بدا وكأنها مُطالبة باتخاذ قرار عاجل بإعادة «مونتاج» الفيلم أو إسناد المادة الخام التي انفردت بتصويرها مع جدتها، المطربة الكبيرة، إلى مخرج آخر يملك عينين مختلفتين، ورؤية تعرف الطريق إلى الحياد، ولا تسقط في غرام الشخصية، كما حدث مع هبة التي أبهرتها «ستو زاده»!

نجحت الحفيدة في اقتحام الجدة، التي ظلت لأعوام طويلة بمثابة «الصندوق الأسود»، الذي لا يمكن الاقتراب منه أو كشف أسراره، ومن ثم إماطة اللثام عن غموضه، ويُحسب لفيلم «ستو زاده» إعادة الاعتبار إلى مطربة لم تلق ما تستحقه من تقدير لموهبتها وتقويم لمسيرتها وتكريم لعطائها، وأكبر الظن أنه سيظل الوثيقة الوحيدة التي تؤرخ لتلك السيدة الموهوبة، التي قامت ببطولة ما يقرب من تسعة أفلام بدأتها عام 1942 بـ»ابن البلد»، ولم تتردد في إعلان تأييدها لثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر، وغنت للجيش فيما سارعت المطربة أم كلثوم بتقديم اعتذارها عن الغناء خشية فشل الثورة!

رحلت «شهر زاد» وبقي فيلم «ستو زاده» بمثابة شهادة على تفردها وصرامتها وقوة حنجرتها وحلاوة صوتها و{الكاريزما» التي كانت تتمتع بها، ووثيقة أيضاً تعكس الرقي والتحضر اللذين سادا المجتمع المصري في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، مقارنة بالانهيار الأخلاقي والحضاري، والتطرف الديني الذي سيطر على حياتنا اليوم؛ بدليل الدعاوى التي لا تنتهي بتحريم الفن والغناء؛ فالرؤية الذاتية للفيلم، وخصوصيته التي فرضتها علاقة القربى بين المخرجة والبطلة، جعلت منه قراءة في الماضي ودرساً بليغاً في مقارنة ما كان مع الحاضر الراهن. لكن أخطر رسالة يمررها فيلم «ستو زاده»، من دون أن يدري في الغالب، أنه يجعلك على قناعة تامة بأن «الماضي أفضل» و{الحاضر أسوأ» .. وأننا في طريقنا إلى «الهاوية»!