مدن تعيش اللحظة!

نشر في 03-09-2013
آخر تحديث 03-09-2013 | 00:01
 طالب الرفاعي حملتني إجازتي الصيفية وأسرتي إلى مدن كثيرة في المملكة المتحدة، وبالرغم من عزمي على الابتعاد عن متابعة الأخبار، فإنها ظلت تطاردني، في زمن صار الواحد فينا يحمل أخبار العالم في جيبه. وظل مطلع قصيدة الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس (1933-1863) يرفرف فوق رأسي: "ليس هناك يا صديقي/ أرض جديدة/ ولا بحر جديد/ ستتبعك المدينة"، ظلت أخبار المدن العربية تلاحقني: المظاهرات والوجع، والتفجيرات، والعنف، والقتل، والدم.

كانت المفارقة كبيرة بين هدوء وسلام وحياة المدن التي أصل إليها وأتنقل بين أرجائها، وبين الحروب الطاحنة التي يعيشها وطني العربي! فأنا من جيل تربى على حلم كبير، بوطن عربي موحد، من الخليج إلى المحيط، ولأن ذلك الحلم ترعرع وكبر معي، فلقد صار جزءاً مني، ولأن الإنسان يعتاش على شمعة أحلامه، فإن الألم يمزق قلبه حين "تبحلق" به الحقيقة، لتظهر له بُعد المسافة بين زهو الحلم وسواد حقيقة الواقع!

أسرني في كل مدينة حللت فيها رتم حياتها بنظامها وهدوئها، وبضجيج واصطخاب حياتها. فبالرغم مما يُعرف عن محافظة الإنكليز وحرصهم على تقاليد حياتهم، فإن دولاب حياة ثورة المعلومات، والفضاء المفتوح، وهدير التكنولوجيا يدور بشكل ملحوظ في مدنهم، حتى إن شارعاً عريقاً كشارع "أكسفورد" صار يحفل بمبان تحمل حلة معمارية جديدة على معمار الشارع وطبيعته، وكأن لسان الحال يقول: لكي تعيش أي مدينة عليها بتنفس هواء لحظتها العابر، وكذلك تمسكها بتقاليدها الجديرة بالاحترام.

بقاء ورقي أي مدينة يعتمد على ثقافة ووعي وفكر ومسلك حياة أهلها. وكم يؤلم قلب العربي، أن يرى مدنه الجميلة والمعتّقة برائحة التاريخ، غارقة في الضياع والتفجيرات القاتلة والدمار والخراب. وتصبح المرارة أقسى حين يكون التمزق والضياع عاماً، من بغداد إلى دمشق فالقاهرة فتونس فالجزائر فاليمن، وكأن قدر الشعوب العربية، منذ مطلع القرن العشرين أن تبقى تخوض في طين الحرب والدم والفقد، وربما يتبدى اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن ما يحدث، تجاوز قتل البشر، إلى محو هوية المدينة العربية، بحيث يصعب على الأجيال القادمة أن تتعرف على حقيقة مدن كانت قِبلةً للعالم!

مدن العالم المتقدم تتزين وتخطو إلى الجديد، ومدننا تتلطخ بصبغ الموت الأسود. لكن، حتى مدننا التي تنعم بالهدوء تعيش على وقع الترقب والتوزع ومشاركة الأخ حروبه وأحزانه. وأنا هنا أتكلم عن مدينتي الكويت. فكم يؤلم أن أرى مدناً صغيرة تزهو بميادينها ومسارحها ومتاحف أهل الفكر والأدب والفن فيها، وتملأ زواياها نصب وتماثيل ناطقة، بينما جرفت المدنية المتسرعة كل ملامح مدينة الكويت القديمة، كويت ما قبل النفط، وخلت كويت اليوم، من أي ساحة عامة تكون مزاراً للسياح، ويعلو فيها نصب يقول شيئاً عن تاريخ المدينة وكفاح وعزم وعيشة أهلها، يوم كان البحر يواجههم من جانب وخاصرة الصحراء تحتضنهم من جانب آخر!

في كل مدينة حللت فيها، وركبت حافلتها مستمعاً إلى المتحدث يشير بإصبعه إلى مبنى أو متحف أو تمثال، حضرت بي الكويت، وهي تخلو من تخليد عوالمها فنياً، فليس من متحف لأي مفكر أو أديب أو شاعر، وليس من تمثال لأي من بناة ورجالات الكويت، وليس من ساحة تجسد عزمهم وسعيهم لتأكيد وجودهم، وكأن بلدي يخلو من أي رأي حصيف يسعى لتجميل صورتها أمام أهلها والعالم!

تنزع المدن وتلبس ثياب عصورها، لكن المدن المخلصة لتاريخها تترك أثراً طيباً يدلّ عليها وعلى حياة أهلها، ومؤكد أن دولة صغيرة مثل وطني الكويت، تستحق أن ينبري أبناؤها لخلق بصمة تدل عليها، وتقدم وجهها الباسم للعالم.

back to top