ما قل ودل: المحكمة الدستورية رمانة الميزان
راهن الدكتور محمد الكتاتني رئيس مجلس الشعب المنحل على قضاء مجلس الدولة في الطعن المقام أمامه بإلغاء قرار حل مجلس الشعب، والذي جاء تنفيذاً لحكم المحكمة الدستورية العليا في مصر القاضي بعدم دستورية قانون الانتخاب الذي انتخب هذا المجلس على أساسه، والذي استتبع حل هذا المجلس.وهو الطعن الذي أصدرت فيه المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة منذ أيام حكمها القاضي برفض الطعن، لأن قرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحل المجلس لا يعدو أن يكون تنفيذاً لحكم المحكمة الدستورية العليا الذي ينطوي الامتناع عن تنفيذه على جريمة يعاقب عليها القانون.
وكان الدكتور محمد الكتاتني يراهن على الحكم الأخير، ليعود المجلس المنحل برئاسته، وقد تصور أن مجلس الدولة سترهبه العصا الغليظة التي استخدمها التيار الإسلامي في إنزال ضربات موجعة بالمحكمة الدستورية العليا، سواء بفصل ثمانية من قضاتها الأجلاء، أو بمحاصرة مبنى المحكمة ومنع قضاتها من دخولها لأداء رسالتهم السامية، في القضايا المطروحة أمامها، فقد تصور الدكتور محمد الكتاتني أن مجلس الدولة سيلغي قرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحل المجلس، لكنه كان رهاناً خاسراً، فقد أثبت مجلس الدولة بالحكم الذي أصدره والذي أيّد فيه قضاء المحكمة الدستورية الذي استتبع حل المجلس، أنه لا يخشى في الحق لومة لائم، وأن القضاء كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.الحرث في البحركان أهم أهداف ثورة 25 يناير المجيدة إقامة حكم ديمقراطي في دولة قانونية، تصون للإنسان كرامته، وتكفل له العيش الكريم، وتحقق العدالة الاجتماعية التي كانت حلماً بعيد المنال في دولة القهر والظلم والطغيان، التي خيل إلينا أننا أسقطناها بدماء الشهداء التي روت أرض مصر، لذلك فإن أي دستور يوضع لإقامة مثل هذا الحكم، وأياً كانت الحقوق التي يصونها، وأياً كانت الحريات التي يكفلها، وأياً كانت القيم العليا التي لا ينفصل الحكم الديمقراطي عنها والتي ترد في نصوصه، أو تستخلص منها ومن روح الدستور، وأياً كانت الآمال العظام التي يجسدها، والحلول التي يقدمها لمشاكل المجتمع ومتطلباته، وأياً كانت الأحلام التي يحتضنها، والرعاية التي يكفلها للطفولة وللأمومة وللشباب والشيوخ، فإن كل ذلك قد أصبح حرثاً في البحر وتنكباً لآمال هذه الثورة وأحلامها وطموحاتها، وخيانة لدماء شهدائها، بسبب انهيار الضمانة الأساسية التي تتطلبها صيانة هذه الحقوق وحماية هذه الحريات، وإرساء هذه المقومات وترسيخ هذه الدعائم، إذا لم يكن هناك قضاء يزود عنها ويحميها، وهو القضاء الدستوري الذي يراقب دستورية القوانين وقضاء الشرعية الذي يحمي مبدأ المشروعية والدولة القانونية، فالدستور وحدة واحدة يكمل بعضه بعضاً، ولا يجوز النظر إلى هذه المقومات وهذه المبادئ والحقوق بمعزل عن بقية النصوص وكأنها هائمة في فراغ. إهدار الدساتيروقد كان العدوان على المحكمة الدستورية متمثلاً في محاصرتها ومنعها من أداء رسالتها السامية، وتقنين ذلك في الدستور بعزل قضاتها، في ما تنص عليه المادة (176) من أن "تشكل المحكمة الدستورية العليا من رئيس وعشرة أعضاء"، مسخاً كاملاً للضمانة الأساسية التي تضمن صيانة أحكام الدستور في كل ما نص عليه من حقوق ومبادئ دستورية، فهي رمانة الميزان التي تراقب تطبيق الأحكام والمبادئ الأساسية في الدستور، وأن أي دستور يقوم على أنقاضها وبلا رقابة للمحكمة الدستورية، حامية الشرعية الدستورية، لا يساوي قيمة المداد الذي سودت به صفحاته، ولا يساوي قيمة الأوراق التي كتب عليها.والقاعدة الأصولية في الشريعة الإسلامية أن "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"، وهي قاعدة لم يطبقها التيار الإسلامي وهو يضع دستور البلاد، ولكن العميد موريس هوريو (علامة القانون الدستوري) طبقها عندما لاحظ ما في تدخل القاضي عند مراقبته دستورية القوانين من خطر لما يخشى من أن تنتابه نزعات وميول سياسية خاصة، كما لاحظ من ناحية أخرى ما يترتب على عدم تقرير هذا الحق للقضاء من إهدار لقواعد الدستور وإعدام لأثرها. وأمام هذين الضررين اختار أخفهما مؤيداً فكرة تدخل القاضي ببحث دستورية القوانين، فهذا أهون بكثير من إهدار الدساتير وانتهاك حرمتها دون رادع ما (أصول القانون للأستاذين الدكتور السنهوري والدكتور حشمت أبوستيت – القاهرة 1938 ص156). وقد وقرت هذه المحكمة في ضمير الشعب في فترة وجيزة من عمرها، بصيانتها لأحكام الدستور ودفاعها عن المكتسبات الديمقراطية وعن الحقوق والحريات التي كفلها الدستور وصيانتها للملكية الخاصة، فالثورة مدينة للقضاء الدستوري الذي حفر بأحكامه العظيمة الطريق ومهده لقيام الثورة.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.