الأوضاع بالغة السوء لدرجة الخطورة، هكذا وصف الفريق أحمد شفيق المرشح السابق الذي خسر انتخابات الرئاسة الصيف الماضي بفارق 1% أمام مرشح الإخوان محمد مرسي رئيس الجمهورية، الأوضاع في مصر، في ذكرى مرور عامين على قيام ثورة 25 يناير في مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط.

Ad

ويبدو أن ما يحدث في مصر اليوم يحدث مثله في كل الجمهوريات التي شهدت ثورات الربيع العربي على اختلاف في الحجم والدرجات، من حق جماهير هذه المجتمعات أن تتساءل اليوم وبعد مرور أكثر من عامين على ثوراتها: ماذا حققت ثورات الربيع العربي؟ وهل تحققت الأهداف التي قامت من أجلها ومن أبرزها الحرية والديمقراطية؟

ليس الهدف من طرح هذه التساؤلات تحميل جهة ما أو طرف ما أو حزب معين المسؤولية عن تردي الأوضاع، وعن عدم تحقق الديمقراطية المنشودة، ولكن الهدف البحث والتحليل عن العوامل الكامنة والمعوقة لقيام ديمقراطية حقيقية في مجتمعات الربيع العربي، والتي تعيش اليوم بما يسمى مرحلة التداعيات والارتدادات والتوابع التي تعقب عادة الزلازل التي تضرب المجتمعات.

لقد استبشر كثير من المثقفين ونشطاء الديمقراطية ودعاة حقوق الإنسان بثورات الربيع، وعقدوا الآمال الكبيرة عليها، وتوقعوا أن تنقل هذه الثورات مجتمعاتنا إلى عهد جديد من الديمقراطية الحقيقية، واليوم بعد أكثر من سنتين، وفي ضوء ما تشهده هذه المجتمعات من أوضاع مظطربة، وعدم استقرار سياسي وأمني، وتعثر في تطبيق الديمقراطية، أجد أصواتاً متزايدة محبطة.

لقد تراجعت الآمال وساد التشاؤم، بل هناك إحباط كبير لدى كثرة من المثقفين لتحقيق انفراج ديمقراطي صحيح، لقد أمل الكثيرون ديمقراطية حقيقية بعد نصف قرن من تجارب متعثرة في الديمقراطية على أيدي الثوريين الانقلابيين على الأنظمة الملكية السابقة، تعهدوا للجماهير بتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة والحرية، وانتهى بهم الأمر إلى تركيز الثورة والسلطة في أيدي قلة فاسدة ومتسلطة أرادت استدامة الوضع عبر نظام التوريث، لتأتي ثورات الربيع وتزيل هذه الأنظمة أملاً في بديل ديمقراطي حقيقي أراه حلماً بعيداً.

فهناك المتفائل الذي يقول: لمَ أنت متشائم؟ ولماذا تكون سلبياً؟ ولماذا لا تعطي الحكام الجدد الإسلاميين الفرصة الكافية كما أعطيت الحكام السابقين؟ ولماذا التسرع في الحكم عليهم؟ وهي حجج تبريرية قالها السابقون من المدافعين عن الأنظمة العسكرية السابقة فما أجدت نفعاً.

إن الكتاب يقرأ من عنوانه، والبدايات الخاطئة لا تنبئ بنهايات واعدة، والإرهاصات الأولية لا تبشر بإنجازات تنموية أو ديمقراطية، وسلوكيات الحكام الجدد لا تترك مجالاً للتفاؤل، وما نحن بمتسرعين بإطلاق الأحكام ولا نحن بمتعسفين، فالحقائق على الأرض هي التي تتكلم وتتحدى من يجيدون معسول الكلام ويحسنون التزلف، ويبرعون في لعبة الخداع، ويبيعون الأوهام للجماهير.

 كيف أكون متفائلاً وحزب سياسي استعلائي وإقصائي يتحكم بمقدرات وأقدار بلد عظيم كمصر؟ كيف لا أكون متشائماً وأرى قصر العدل محاصراً من أتباع حزب سياسي يخاصم القضاة ويتهمهم ويرهبهم ويشكك في أحكامهم، ويسعى إلى تطهير القضاء بحسب زعمه ممن ليسوا على هواه، بل يتدخل في أحكامهم وشؤونهم؟

كيف أكون إيجابياً أمام سلطة سياسية تجرأت فأصدرت قراراً محصناً لا معقب عليه غطاءً لدستور انفرد به حزب السلطة، إن الغايات المشروعة لا تنفصل عن وسائلها المشروعة أيضاً، لماذا يتعذر تطبيق الديمقراطية في مجتمعات الربيع العربي على أيدي الإسلاميين؟ لسبب بسيط وبدهي، فإذا كان القوميون وهم في السلطة لم يتمكنوا وعبر 60 عاماً من تحقيق الديمقراطية مع أنهم تعهدوا بها ورفعوها شعاراً، فكيف يحققها الإسلاميون وهم لم يتعهدوا بها ولم يرفعوها شعاراً، بل تعهدوا بتطبيق الشريعة؟  هناك اليوم في الساحة أصوات كثيرة ومتزايدة تقول إن الديمقراطية لا تصلح للمجتمعات العربية، وهناك من يطالب بحكم المستعبد العادل، ويجد قبولاً واسعاً بين الجماهير وبعض النخب الثقافية والسياسية، في تصوري أن قضية الديمقراطية لا تتعلق بنظام الحكم الذي يطبقها: قومياً أو يسارياً أو إسلامياً، إنها أبعد وأعمق من ذلك.

قرأت قبل 9 سنوات للكاتب القطري المبدع المهندس خالد سلمان الخاطر مقالة قيمة "الديمقراطية واستبدال الغاية بالوسيلة" حلل فيها لماذا لا تثمر الديمقراطية في الأرض العربية؟ وقال: إن المجتمعات العربية استوردت الديمقراطية وهي من أفكار الغرب العظيمة ولكن دون شروطها ومقوماتها وثقافتها (الليبرالية)، وحاولت تطبيقها لكنها لم تثمر كما أثمرت في الغرب الليبرالي، لماذا؟ لأن مجتمعاتنا فصلت بين الوسيلة (الديمقراطية) وقاعدتها (الليبرالية) واستبدلت الوسيلة بالغاية (ترويض السلطة) وظنت أن الديمقراطية مجرد صناديق انتخابية، ولكن هذه مجرد وسيلة لغاية، وهي (الحكم الرشيد) ولا يمكن للوسيلة أن تحقق غايتها إلا إذا قامت على قاعدة صلبة من "ثقافة الليبرالية" التي تتغلغل في بنية المجتمعات العربية ومؤسساتها، وتضمن للفرد حقوقه وحرياته الفردية.

وينتهي الكاتب إلى أن تيار الإسلام السياسي والمتشددين بجميع أنواعهم من دينيين وقوميين وغيرهم، لا يعارضون الديمقراطية كوسيلة سريعة وسهلة للوصول إلى دفة الحكم لكنهم جميعاً يعارضون "الليبرالية" لأنها السلاح الذي لا يضمن استمرارهم في الحكم.

ويضيف: أنه في غياب ثقافة الليبرالية تصبح الرغبة لدى الجماهير في حكم مستبد عادل أقوى من الرغبة في الديمقراطية، حيث يضمن حكم المستبد العادل العدالة والمساواة بين الجميع لكون من يحاسبه هو عقله وضميره.

وما ذكره الكاتب الفاضل بعد 9 سنوات يصدق اليوم تماماً على ثورات الربيع العربي وتداعياتها على مجتمعاتها، فالديمقراطية كوسيلة انتخابية من غير قاعدتها الليبرالية كما طبقت في تلك المجتمعات أفرزت أوضاعاً مضطربة وإخلالاً بالاستقرار السياسي والأمن العام، بل أدت إلى وصول جماعات سياسية لا تؤمن بالديمقراطية إلا كوسيلة مرحلية إلى السلطة والاستحواذ على كل مؤسسات ومفاصل المجتمع مع إقصاء المعارضة وتخوينها.

ومن هنا تعالت أصوات كثيرة تطالب السلطات الحاكمة بوقفة حازمة تجاه هؤلاء الذين يستغلون المناخ الديمقراطي ويقومون بتسيير المظاهرات والاحتجاجات المعطلة لمصالح الناس والمعوقة لحرية حركتهم في الذهاب لعملهم والعودة، هذه الاحتجاجات التي تتعدى على الناس وتتجاوز القانون والنظام وتخلق مناخاً طارداً للاستثمارات والسياحة وتبعث على عدم الاستقرار، كل هذه الأمور هي التي أضعفت الإيمان بصلاحية الديمقراطية حلاً لأوضاع المجتمعات العربية، فلا عجب من عودة المطالبة بحكم المستبد العادل حلاً آمناً عندما لا يأمن الناس على أنفسهم وأولادهم وأموالهم.

* كاتب قطري