سيكون 30 يونيو يوماً حاسماً من أيام مصر بكل تأكيد؛ فإما أن تنجح الانتفاضة الشعبية وتستعيد مصر روحها وقدرتها على صناعة التاريخ، وإما أن تفشل وينزوي هذا البلد في قبضة التخلف والفشل والاستبداد لسنوات.

Ad

لكن نجاح انتفاضة اليوم يتوقف على عوامل عديدة، وربما لا يكون نجاحاً حاسماً يقود إلى تحقيق كامل الأهداف، ولذلك، يمكن توقع حد أقصى وآخر أدنى لما يمكن أن تحققه تلك الانتفاضة في حال نجحت.

 الحد الأقصى للنجاح المتوقع للانتفاضة التي تشتعل في مصر اليوم يتمثل بإجبار مرسي على التنحي، أو قبول الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، بعد سنة واحدة من ولايته أثبت خلالها الفشل الذريع، وعرّض المصالح الوطنية المصرية للخطر، وتسبب في انهيار الخدمات وتردي مستوى المعيشة وتزعزع مؤسسات الدولة.

أما الحد الأدنى للنجاح المتوقع لما سيحدث اليوم فلن يكون أقل من لجم جماعة "الإخوان المسلمين"، وتحجيم عملية "الأخونة"، وإطاحة حكومة قنديل الضعيفة، وتصحيح المواد المسيئة في الدستور، وإصلاح مسار العملية السياسية التي خطفها "الإخوان" وحلفاؤهم بعيداً عن الرشد ومصلحة البلاد.

ولا شك أن الحراك السياسي الذي يقوده الشباب أساساً مع بعض القوى السياسية وملايين من الجماهير التي تضررت من حكم "الإخوان" الفاشل، لن يكون قادراً على تحقيق الأهداف المرجوة من دون معونة مباشرة من القوات المسلحة.

بالنظر إلى الأداء المتخبط والباهت للمؤسسة العسكرية المصرية على الصعيد السياسي خلال الفترة الانتقالية التي تولت فيها المسؤولية، لم يكن أكثر المؤيدين لها قادراً على الدفاع عن دورها السياسي، وكان الجميع أكثر حرصا على عودتها للثكنات، لكن اليوم يبدو أن هناك دعوات متصاعدة لاستدعائها إلى المشهد السياسي من جديد.

صحيح أن الجيش المصري لم يحب ثورة يناير، لكنه كان يكره مسألة التوريث، ولم يكن يحب أن يزول النظام السابق، لكنه كان يحترم الغضب الشعبي على مبارك وفساده، ولم يكن واثقاً من سلامة مقصد كل من تظاهر وطالب بالتغيير، لكنه كان موقناً بأهمية إجراء الكثير من الإصلاحات الضرورية.

حين زادت الضغوط على نظام مبارك، وبات واضحاً لكل ذي فهم وبصيرة أنه صار جزءاً من الماضي، سارع الجيش إلى تبني مطالب الثورة علناً، وأعلن احترامه لأهدافها، وأعطى التحية العسكرية "المغلظة" لشهدائها، لكنه كان يُظهر غير ما يُبطن.

كانت خطة الجيش آنذاك تتلخص في محاولة احتواء الموقف، واللعب على الوقت، وإطفاء الحرائق، وتفريغ الاحتقانات، واحتواء الاحتجاجات، من دون أن يهدم نظام مبارك تماماً، أو يغير طبيعة الدولة التي عرفها، وحكمها، طيلة ستة عقود.

كان الجيش يريد الوقت والدعم السياسي لإعادة إنتاج نظام مبارك بلا توريث، أو فساد فاجر، أو قمع مفضوح، أو تفريط مزر في المصلحة الوطنية. كان الجيش يريد إصلاحاً من داخل النظام، ولا يحبذ الانقلاب الكامل عليه. لم يصدق الجيش الثورة، لذلك فقد "كذّبته" بدورها.

كانت قناعات الجيش آنذاك تتلخص فيما يلي: أكره الثورة، ولا أشكك في دوافعها النبيلة، وأحترم الثوار، لكنني أعرف أن هناك من يندس بينهم لهدم الدولة أو سرقتها، وأحافظ على الأمن ومقدرات الوطن، من دون أن أتورط في نزال مفتوح يكشف موازين القوة الحقيقية، أو يفجرني من الداخل، وأقبل الحلول الوسط... و"كفى الله المؤمنين شر القتال" غير المحسوبة عواقبه.

وكانت رؤية الجيش طيلة الفترة الممتدة من 11 فبراير 2011 إلى 12 أغسطس 2012، تتلخص فيما يلي: لا أحكم ولا أكون محكوماً، وأحافظ على تماسك المؤسسة العسكرية ودورها الوطني، وأدافع عن مقدرات الدولة بقدر طاقتي، وأصون "عرقي" الممثل في إمبراطوريتي الاقتصادية الضخمة، وأحفظ هيبتي بعدم التورط في نزالات واسعة، ولا أتنازل عن عقيدتي الوطنية أو أخدش علاقتي بقاعدتي الشعبية بقدر الإمكان، ولا أكون مطية في يد رئيس مدني، ولا أعاديه في الوقت ذاته... وكلما كانت الدولة متعثرة ومأزومة ومضطربة، فإن الحاجة إلى دوري ستظهر وتتزايد، وسأعطي بقدر ما آخذ.

لم يستطع الجيش أن يُفّعل رؤيته، لأنه عاطل عن مواهب السياسة، وبلا خبرات في هذا الصدد، ولأن ثلاثة عقود من التخريب المنظم في عهد مبارك نالت بلا شك من همته وكفاءته، وإن لم تقض على تماسكه ووطنيته، ولأن "الإسلاميين" نصبوا له الفخاخ وورطوه و"أخافوه"، ولأن معظم "الثوار" لم يفرقوا بين كونه "قوة خير" مرتبكة ومأزومة، وبين كونه "قوة شر" يجب هدمها وإطاحتها، ولأن الولايات المتحدة ضغطت عليه، و"هددته"، لـ "يُسلّم" البلد لـ"الإخوان" تحت عنوان "نتائج الصناديق".

بعد حادث "رفح" في رمضان من العام الماضي، الذي قتل "جهاديون" خلاله جنوداً مصريين على الحدود مع إسرائيل، أُجبر الجيش على تغيير رؤيته، لتصبح كما يلي: أعود إلى الثكنات، وأعالج جراحي، وألملم شتاتي. لا أستسلم للسياسي فأُسحق، ولا أناطحه فأُكسر، لا أصبح آلة طيعة مستعدة لـ"الأخونة" وتنفيذ الأوامر من دون مناقشة، ولا أتورط في السياسة إلى حدود خطرة قد تطيح بما تبقى لي من رصيد.

واستناداً إلى ذلك، ذهب طنطاوي وعنان، وجاء السيسي. نزل الجيش إلى الشارع، ولعب الكرة مع خارقي قرار حظر التجوال. دعا إلى الحوار الوطني، وألغاه امتثالاً لقلق "الإخوان" ورفضهم. هدم الأنفاق، وحظر التملك في المنطقة الحدودية مع إسرائيل، لكنه شارك في حماية "الاتحادية"، وتسلم طائرات "إف 16" من واشنطن. حذر من "انهيار الدولة"، وألمح إلى "تدخله" إذا "دعت الحاجة"، معرباً في الوقت ذاته عن "عزوفه" عن خوض غمار السياسة.

لكن أداء "الإخوان" المزري أغرى الجيش مجدداً بالعودة إلى ميدان السياسة، وتخبط الرئيس وافتقاده الاحترام والاعتبار أغرى بالمصالح الوطنية المصرية نفسها، وجعل الدعوات تتصاعد مجدداً للجيش لكي يعود إلى خشبة المسرح.

أحس "الإخوان" بطموح الجيش الجديد، ورصدوا الدعوات والمقالات والمناشدات والتظاهرات التي تستدعيه، فكانت حادثة خطف الجنود كافية لإرباكه بعض الوقت وإبعاده عن التفكير في غير شؤونه، خصوصاً أن الخاطفين لقنوا الجنود المخطوفين كلاماً يمس الفريق السيسي ويعزز من مكانة الرئيس.

كان الرئيس يتحدث في خطاب مأزوم وهزلي مساء الأربعاء الماضي استمر لساعتين ونصف الساعة، فأشاد بـ"رجال الجيش"، ومدح عدداً من الوزراء بالاسم، لكنه تفادى تماما أن يذكر اسم السيسي أو يشيد به مباشرة أو حتى ينظر إليه، في الوقت الذي حرص فيه على أن يردد أكثر من مرة "أنا القائد الأعلى للقوات المسلحة"، وكأنه يريد أن يذكرنا بها.

قرار إطاحة السيسي يجب أن يكون على طاولة الرئيس الآن، ويجب أن يكون الرئيس في انتظار الوقت المناسب لاتخاذه، حتى يتخلص تماماً من شبح الماضي ويحكم سيطرته على المؤسسة الأقوى في مصر، والتي كانت على رأس أعداء جماعة "الإخوان" لستة عقود. فالرئيس وجماعته يعرفان بلا شك أن حكم مصر لن يستقيم لهما من دون تطويع الجيش وإخضاعه تماماً.

السيسي يعرف ذلك، ويعرف أيضاً أن إطاحته من منصبه تعني تزايد احتمالات انهيار الجيش وتفككه، وربما تعني أيضاً ضياع الأمل في استعادة البلاد من قبضة الحكم الاستبدادي الذي يرسي "الإخوان" دعائمه، وربما تعني كذلك تهديد مصالح البلاد العليا والتعريض بسيادتها ووحدة ترابها.

إذا نجحت انتفاضة اليوم؛ فسيكون للجيش دور مهم في فترة انتقالية جديدة تستهدف استعادة الثورة بعد خطفها من "الإخوان" وحلفائهم، لكن هذا الدور يجب ألا يتجاوز حدود الحفاظ على الأمن، وضمان انتظام مؤسسات الدولة في عملها، وتأمين العملية السياسية لتنتظم في مسار ديمقراطي، دون أن يحكم الجيش أو يوجه من سينتخبه الناس ليكون في موقع الحكم.

سيكون أمام الجيش المصري فرصة نادرة لكي يبرهن مجدداً على أنه منحاز دوماً للوطن وللشعب وأنه قادر على المساهمة في بناء الدولة الديمقراطية كما كان قادراً على بناء الدولة الوطنية.

* كاتب مصري